لماذا تنجز المشاريع في الدول الأخرى في فترات زمنية أقل بكثير وتكلفة أقل بكثير مما ينجز في بلادنا؟. سؤال بسيط ومشروع لا أعتقد أنه لا يمر في ذهن أي مواطن في هذا البلد. وأعتقد أن الإجابة على هذا السؤال البسيط والشائك في الوقت نفسه، تكمن في الثقافة السائدة والفكر الجمعي لدينا ولدى الآخرين في الدول الأخرى, ففي الدول الأخرى الغربية والشرق آسيوية حتى، يخشى المسؤول من محاسبة دافعي الضرائب له على كل تأخير في أي مشروع عام عن موعد تسليمه المقرر، أو من سؤاله عن أي قرش صرف في غير محله، أو من سؤاله عن استخدامه لسيارة حكومية في إيصال أطفاله من البيت إلى المدرسة، أو إيصال زوجته إلى المستشفى أو السوبر ماركت أو الكوافير، فكل أو أحد هذه التجاوزات التافهة في ثقافة المسؤولين لدينا، يمكن لها أن تنهي مستقبل «أتخن» مسؤول لديهم، ويمكن لحفنة قليلة من الدولارات أن تطيح بمسؤول كبير أو وزير عن كرسي وزارته، بينما لدينا أبناء بعض المسؤولين «يفحطون ويجدعون ويسقسقون» في سيارات القطاع العام!. وفي الدول الأخرى يعي المسؤول أنه المستفيد الأول من سرعة إنجاز أي مشروع خدمي، وأن إنجازاته على أرض الواقع ونزاهته هما المعياران الوحيدان لبقائه في منصبه لفترة ولاية واحدة أو فترتين على الأكثر إن جددت له الثقة، بينما لدينا بعض المسؤولين لا هم لهم سوى «تفخ» الرصيد في البنك, ولدينا تكاد الثقافة تختلف جذريا عما لدى الدول الأخرى، فلدينا مقاولون لديهم مقاولون من الباطن يتفقون مع مقاولين من الباطن يحولون المشاريع إلى مقاولين من الباطن يرسونها على مقاولين من الباطن وهلمجرا، ليتسلم المقاول الأول مليارا «يزحلق» في الجيب منها مائتي مليون ويعطي مقاول الباطن الأول ثمانمائة مليون، وبدوره «يزحلق» في الجيب مائتي مليون أخرى، والثالث مثله والرابع كذلك، وربما الخامس، ليرسو المشروع في نهاية «الزحلقة ودهن السير» على مقاول سادس ينفذ المشروع بمائة وخمسين مليونا و «يزحلق» خمسين مليونا في الجيب، والمحصلة مشروع متهالك بمواصفات رديئة يتأخر عن موعد تسليمه بأضعاف المدة المقررة في العقد «وعن أحد غيرهم ما استفاد»!. ولدينا، كان المسؤول ينجو بفعلته دون محاسبة، حتى أننا أصبحنا نكتشفه الآن بعد ثلاثين سنة من فساده، ونكتشف أنه تسبب بعد ثلاثة عقود في إزهاق الأرواح ونكبة أحياء بكاملها في مدينة كبيرة مثل جدة. صحيح أن هذه المحاسبة الصارمة باتت ملمحا بارزا في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز حفظه الله ، عهد النزاهة ومكافحة الفساد، وهي أهم خطوة على الطريق الصحيح. وصحيح أننا نحزن عندما نقرأ أخبار محاكمات واعترافات أمناء سابقين وكتاب عدل وغيرهم على فساد تراكم في مجتمعنا على مدى عقود، ولكن «أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي». نحن نسير على الطريق الصحيح الآن، ونستوعب أن تغيير هذه الثقافة قد يحتاج إلى عقود لتتشكل في مجتمعنا ثقافة جديدة مغايرة عن السابق، تضع الوطن في المقام الأول وفوق الاعتبارات الشخصية والمكاسب الضيقة. المسألة مسألة ثقافة وطنية إذن، ولا بد لنا أن نؤمن عن قناعة كاملة بأننا بدأنا المشوار ولا بد لنا أن نستمر ،ولا نسمح لأي كان أن يقف في طريقنا. [email protected]