من أكثر أوجه الفساد الإداري الذي تتعدد أضراره ، وتتنوع آثاره ويضر بالمال العام ويسبب التأخر في نهضة الوطن ، هو ذلك التلاعب والإهمال والقصور الشديد في إجراءات ترسية المشاريع بوجه عام . ذلك أن هذا الفساد لا تقتصر أضراره على جانب واحد بل أنها تكون كداء السرطان حين ينتشر في دم الإنسان فيفسده . فتأخير المشاريع وبطء تنفيذها وجه من وجوه آثار هذا الفساد ، وسؤ التنفيذ وظهور العيوب الفنية وقصر العمر الافتراضي للمشروع وجه قبيح آخر لأضرار هذا الفساد ، وهدر المال العام وضياعه في بعض هذه المشاريع جانب من الجوانب المظلمة لآثاره ، وضياع الأمانة الوظيفية والمتاجرة بها أثر من آثار هذا التلاعب والإهمال والقصور الذي يحدث في ترسية بعض المشاريع . وهذا الفساد قد لا يكون دائماً نتيجة اختلاسات أو رشاوى أو تواطؤ بين الجهة الإدارية وبين المقاول المنفذ للمشروع . فهذه الأمور ولئن كانت غير مستبعدة دائماً بل محتملة الوقوع ، إلا أنها ليست هي بالضرورة الأسباب الوحيدة التي ينتج عنها ذلك الفساد في صورته النهائية ، فقد يفوز مقاول المشروع بثمار هذا الفساد دون أن يشاركه أحد من موظفي الجهة المستفيدة ، ولكن الأمر جاء نتيجة الإهمال والقصور وعدم المبالاة بداية من دراسة المشروع ثم مرحلة الترسية ثم المتابعة والإشراف وانتهاء باستلام المشروع . فقد يكون القائمون على دراسة المشروع وتقدير التكاليف له وللجنتي فتح المظاريف والترسية والجهة المشرفة على التنفيذ والجهة المستلمة كلها لم تقطف أي ثمار غير مشروعة بسبب هذا المشروع ، ولكن الإهمال والقصور والذي حدث من بعض تلك الجهات استفاد منه المقاول وحده دون غيره ، وتضررت منه جهات كثيرة أولها الوطن ثم بيت المال والمصلحة العامة والجهات التي يخدمها ذلك المشروع بوصفه لم يكن على مواصفات سليمة وصحيحة تفئ بالأهداف المتوخاة منها . فضلاً عن المبالغة في تقديرات تكلفة المشروع ، التي لا تعبر عن القيمة الحقيقية للتكلفة ، بدلالة واضحة للعيان منذ سنين طويلة وهي أن المقاولين من الباطن يقومون بتنفيذ المشاريع بنفس المواصفات المطلوبة في كراسة الشروط والمواصفات ولكن بقيمة تقل كثيراً جداً عن القيمة التي تم تقديرها لترسية المشروع على المقاول الرئيسي . في هذا السياق قرأنا أن الإجراءات التي اتخذتها أمانة محافظة جدة في إيقاف أعمال تطوير المنطقة التاريخية كشفت أن إحدى الشركات تنفذ أعمال الرصف في أحد هذه المحاور من الباطن بقيمة 25 ريالاً للمتر المربع ، بينما السعر الذي تمت ترسية المشروع به على المقاول الرئيس حوالي 405 ريالات للمتر المربع فرق بنسبة فلكية تبلغ (1620%) بين المقاول الرئيسي والمقاول من الباطن . هذه الجزئية وحدها يجب الوقوف عندها طويلاً ذلك أنها أصحبت عادة لدى الجميع، فالمقاول الرئيسي يفوز بمكاسب كبيرة جداً دون أن يقوم بعمل يذكر ، ومن مقاول لآخر حتى تنتهي للمقاول المنفذ فيقوم بالتنفيذ بأي طريقة وبأقل المواصفات والشروط ليضمن مكسباً يحقق له الوفاء بالتزاماته تجاه عمال شركته وعملائه . وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل أذكر أن مشروعاً لإحدى الوزارات تمت ترسيته على مقاول رئيسي بمبلغ ستة عشر مليون ريال ثم قام بإعطائه مقاول من الباطن باثني عشر مليون ريال وهذا الأخير اتفق مع ثالث للقيام بالمشروع بثمانية مليون ريال وما كان من هذا إلا أنه بحث عن مقاول جديد من الباطن فتم الاتفاق معه على أربعة ملايين ريال، والأخير قام بالتنفيذ والجهة المستفيدة استلمت المشروع ولم تعترض على أي جزئية وكان الخلاف فقط حول تأمين مولد كهربائي يغذي المشروع بمبلغ مائتي ألف ريال اعترض عليها هذا الأخير وطالب بها المقاول الأول ؟! وهذا يعني أن التقديرات بعيدة كل البعد عن الحقيقة وإلا فكيف يتم تنفيذ المشروع بأربعة ملايين ريال في حين قدرت الوزارة التكلفة بستة عشر مليون ريال ؟! فمن المسؤول عن هذا التقدير والذي يعتبر هدراً للمال العام وتبديداً له. وقد يقول قائل: أن التقديرات ربما كانت وفق مواصفات وشروط معنية ولكن لم يتم الالتزام بها من قبل المقاول الأخير ، ولسان الحال هنا ينطق بما هو أقسى وأمر وأدهى وأخطر ، إذا كان هذا صحيح فكيف يتم استلام المشروع دون وجود ملاحظات فنية، ماعدا المولد الكهربائي ، وقيمته معلومة ؟! وهنا يتضح بجلاء أن استلام المشاريع إما أن تكون وفق المواصفات وهذا يدل على أن تقدير تكلفة المشروع غير صحيحة ولم تعتمد على بيانات وأرقام واقعية ، أو أن التنفيذ لم يتم على تلك المواصفات ويكون الخلل والإهمال في الاستلام وكلاهما سبب من أسباب الفساد الإداري . والسؤال الذي يفرض نفسه الآن أليس من مهام هذه الجهات الرقابية سواء قبل الصرف أو بعده أن تلحظ مثل هذا التلاعب والإهمال والقصور والذي يتكرر منذ أمد بعيد . وهل يمكن النص على عدم جواز الترسية من الباطن ، إذ لا يكفي اشتراط بقاء مسؤولية المقاول الرئيسي مع الباطن مع وجود هذا الفرق الشاسع في التكلفة . اللهم أرزقنا رزقاً حلالاً وعملاً صالحاً إنك ولي ذلك والقادر عليه .