أشرنا في حلقة الأمس أن هناك صراع كر وفر بين وزارة التجارة والتجار بشأن حماية المستهلك من ابتزاز واستغلال التجار للمزايا المادية التي حصل عليها المواطن أخيرا بموجب الأوامر الملكية، وأبرزها صرف راتب شهرين للعاملين في الدولة والمتقاعدين والطلاب وبعض شركات القطاع الخاص. واستعرضنا تصريحات وزير التجارة التي حذر فيها التجار من التلاعب في الأسعار، وجهود الدولة على مدى السنوات الثلاث الماضية لدعم المستهلك في المملكة في مواجهة الغلاء، وكيف أن التجار التفوا والتهموا قدرا كبيرا من الدعم الحكومي وحرموا المستهلك من ميزة الدعم الذي قدمته الدولة لحليب الأطفال والأرز. وفي هذه الحلقة نواصل كشف ألاعيب التجار والمستوردين في لعبة الكر والفر في الصراع على جيب المستهلك. على الرغم من معاناة غالبية المواطنين من الارتفاع الجنوني في المواد الغذائية في السنوات الثلاث الأخيرة نتيجة زيادة الأسعار بنسب تتراوح بين 50 إلى 100 في المائة في المتوسط حسب تقديرات مختصين، إلا أن المشكلة كانت مرشحة للتفاقم في السنوات المقبلة نتيجة لتراجع معدلات إنتاج الحبوب بسبب التقلبات الجوية والمضاربات على الأسعار ومحدودية الحلول السريعة محليا للمشكلة التي تؤرق أكثر من 95 في المائة من البيوت، لولا الأوامر الملكية الأخيرة التي تدخلت لصالح المواطن والتي تضمنت صرف راتبين وتثبيت بدل غلاء المعيشة بنسبة 15 في المائة على الراتب الأساسي للموظفين والمتقاعدين. تشير تقارير منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة «الفاو» الصادرة في يناير الماضي إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بمقدار 12 في المائة خلال الفترة من 2005 إلى 2006، وبنسبة 24 في المائة في 2007، و50 في المائة خلال الفترة من 2008 إلى 2010م. كما تؤكد المنظمة أن أرصدة الحبوب العالمية تتجه إلى الانكماش بحدود 7 في المائة مع هبوط أرصدة الشعير 35 في المائة والذرة الصفراء 12 في المائة والقمح 10 في المائة، مشيرة إلى أن المخزون العالمي من الغذاء ينخفض بنسبة 3.5 في المائة منذ عام 1995م. وفيما يعد الأرز والسكر أهم مؤشرين لقياس ارتفاع المواد الغذائية لدى منظمة الفاو، فإن التقارير السعودية تشير إلى ارتفاع أسعار الحبوب والسكر والزيوت بنسبة 50 في المائة في المتوسط. وتبعا لذلك ارتفع سعر البيع بالتجزئة لكيس السكر زنة 10 كجم من 30 ريالا إلى 41 ريالا للمستهلك قبل عدة أشهر، وارتفع سعر طن الأرز ليتراوح بين 800 دولار و1250 دولارا للطن تبعا للنوعية (الدولار يساوي 3.75ريال). ووصل سعر كيس أرز أبو كاس زنة 40 كجم إلى 230 ريالا، المهيدب إلى 288 ريالا، والوليمة إلى 230 ريالا. ووصل الارتفاع في سعر الزيوت في المتوسط إلى 50 في المائة للعبوة المتوسطة «سعة 1.8 لتر». 50 ملياراً فاتورة الغذاء سنويا يقول عضو اللجنة الغذائية في غرفة جدة إبراهيم محمد بترجي إن المملكة تعد أكبر مستورد للسلع الغذائية في الشرق الأوسط بفاتورة تزيد على 50 مليار ريال سنويا، مشيرا إلى أن نسبة تأثير ارتفاع الأرز في مؤشر غلاء المعيشة يبلغ 3 في المائة واللحوم بأنواعها 6 في المائة. ودعا إلى إعادة النظر في السياسات الزراعية في المملكة لضمان رفع معدل الاكتفاء الذاتي الذي بات من المستحيل تحقيقه في ظل السياسات التحفظية لاستهلاك المياه في الزراعة، مشيرا في هذا الصدد إلى إمكانية التوسع في نظام الصوب الزراعية لزيادة إنتاج الخضراوات. وقال إن المملكة تخصص أكثر من 12 مليار ريال لدعم المواد الغذائية سنويا، مطالبا بإعادة النظر في توجيه جزء كبير من هذا الدعم إلى الفقراء مباشرة بدلا من الدعم الشامل الذي يذهب للغني والفقير معا. ورجح استمرار ارتفاع فاتورة الاستيراد في ظل ارتفاع معدل النمو السكاني، متوقعا أن يصل عدد سكان المملكة بحلول 2050م إلى أكثر من 50 مليون نسمة. وطالب أجهزة وزارة التجارة برقابة أكثر فعالية للأسواق من خلال إلزام المحال بوضع دليل لأسعار السلع، وكذلك وضع البطاقات الخاصة بالتخفيضات المتفق عليها مع الموردين لضمان المزيد من الشفافية. ودعا إلى إجراء دراسة متأنية بشأن تأثير قرار إلغاء الرسوم الجمركية على أكثر من 180 سلعة على الأسواق، مشيرا إلى أن هذا الإجراء يصب في مصلحة السلع الأجنبية أكثر من الوطنية. 16 % زيادة في الأسعار وفي السياق ذاته، بدا الاقتصادي خالد الحلواني متشائما بشأن مستقبل أسعار المواد الغذائية في المملكة على المديين القصير والمتوسط في ظل حالة عدم الاستقرار التي تسود منطقة الشرق الأوسط حاليا، وتقارير منظمة الفاو التي تؤكد أن الأسعار مرشحة للارتفاع بنسبة 16 في المائة في آسيا خلال العام الحالي. وأرجع الحلواني توقعاته باستمرار الضغوط على أسعار السلع الأساسية لقلة المعروض من تلك السلع نتيجة إقدام أمريكا وبعض الدول الأوروبية على استعمال بعض المحاصيل كوقود حيوي لتقليل الاعتماد على النفط، لمحاولة تخفيض أسعاره التي فاقت 100 دولار للبرميل. ولم يستغرب الحلواني ارتفاع الأسعار في المملكة مقارنة بالعديد من الدول المجاورة نتيجة بعض السياسات الاحتكارية للوكالات وارتفاع معدل الاعتماد على الواردات من الخارج، مشيرا إلى أن غياب الرقابة الرسمية وراء الارتفاع المبالغ فيه بالأسعار. وأعاد إلى الذاكرة التصريحات الأولى لوزير التجارة عبدالله زينل عند توليه المسؤولية في وزارة التجارة، والتي أكد فيها حرصه على وضع خطة متكاملة لضبط الأسعار أمام الملك، مشيرا إلى أن هذه الخطة لم يسمع بها أحد. وأشار إلى الأثر المحدود الذي أحدثه مؤشر الأسعار في مختلف المدن والمناطق على صعيد ضبط الأسعار. تحديات الدخل المحدود من جهته، أشار عبدالملك مطر مسؤول مبيعات في أحد المتاجر في جدة إلى تحديات اجتماعية تلقي بظلالها على المجتمع نتيجة الارتفاع الكبير في الأسعار، يأتي في صدارتها ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الغذاء لذوي الدخل المحدود في ظل الحديث الذي يدور من وقت إلى آخر عن وجود شح في إنتاج بعض السلع الأساسية من المصدر مثل الأرز وهو ما أثار قلقا في الآونة الأخيرة. ويشير إلى أن التحدي الآخر يقع بالدرجة الأولى على الجهات الرسمية، ويستلزم ضرورة زيادة حجم الأراضي الصالحة للزراعة ورفع كفاءة طرق الري للحد من هدر المياه، ما يؤدى إلى زيادة الإنتاج المحلي الطريق الرئيسي لمواجهة أي أزمات غذائية في المستقبل. وأبدى أسفه الشديد؛ لأن سياسة الدعم لمواجهة ارتفاع الأسعار لم تحقق أهدافها الرئيسة في كبح الأسعار نتيجة جشع بعض التجار، مشيرا إلى أنه كان من المهم التحرك لتقديم الدعم نقدا إلى الأسر المستحقة، وهو الأمر المعمول به حاليا في الكثير من الدول، لكنه استدرك مبديا الكثير من المخاوف من أن الإفراط في تقديم الدعم يؤدي إلى اتكالية الكثيرين وصرفهم عن البحث عن عمل مناسب لرفع مستواهم المعيشي. وأشار إلى أهمية تكريس ثقافة البحث عن البديل الوطني مكان المستورد في ظل وصول الصادرات السعودية إلى أكثر من 130 دولة حول العالم حاليا. ولم يستبعد أن تشهد الأسعار مزيدا من الارتفاع في المرحلة المقبلة في ظل الحديث عن التوتر في المنطقة العربية؛ لأن ذلك سيؤدي تلقائيا إلى ارتفاع أسعار النفط وتكلفة الأجور والشحن والتأمين. مقارنة بالدول الأخرى من جهته، قال الاقتصادي سعد بن محمد العلاوي إن قضية الأسعار في المملكة تحتاج إلى معالجة جوهرية موضوعية في ظل اتفاق الجميع على أن معدلاتها في المملكة مرتفعة مقارنة بغيرها من الدول المجاورة، مرجعا ذلك إلى الطبيعة الاحتكارية للسوق في المملكة، على الرغم من تأكيد وزارة التجارة على حرية السوق. وأشار إلى أن رفع الدولة الرسوم الجمركية عن 180 سلعة قبل ثلاث سنوات لم يؤثر للأسف الشديد على أسعار المنتجات في السوق، ما يشير إلى وجود خلل كان من نتائجه ذهاب أكثر من خمسة مليارات ريال تتحملها الدولة كرسوم جمركية إلى جيوب فئة قليلة من المستوردين. واستغرب ارتفاع الأسعار بعد إقرار دعم الكثير من السلع في الآونة الأخيرة، متفقا مع سابقيه في الرأي بأن الدعم النقدي أفضل الطرق وأقصرها للوصول إلى الهدف المنشود. وأرجع حساسية الحديث عن إمكانية حدوث أزمة غذائية في السنوات المقبلة إلى أهمية الغذاء في حياة الشعوب وصعوبة الاستغناء عنه مثل أي سلعة كمالية أخرى. وأعرب عن أمله في أن يسهم تثبيت بدل غلاء المعيشة البالغ 15 في المائة في دعم صمود ذوي الدخل المحدود وألا يستبقه التجار في إقرار المزيد من الارتفاع في الأسعار. واستغرب سلبية وزارة التجارة في ضبط الأسعار في السوق التي تتمتع بقوة شرائية عالية تغري البعض على الاستغلال من أجل الربح بالدرجة الأولى. ومن جهته، حذر الاقتصادي فارس العلي من استمرار الاتجاه الصعودي للأسعار في المملكة على الرغم من بقائها في بلد المنشأ بدون تغيير، منتقدا سيطرة شركات محدودة على سوق التجزئة، ما يتيح لها تحديد الأسعار كيفما تشاء. وتساءل كم سلعة انخفضت أسعارها في السوق السعودية بعد أن تراجع سعرها عالميا. وقال إن السوق السعودية بدون رقيب في الوقت الراهن ما يؤدي إلى تحميل المستهلك أعباء إضافية ناتجة عن الفروق السعرية من محل لآخر، وقدرها بنحو 20 في المائة في سعر السلعة في بعض الأحيان، لافتا إلى أن نسبة كبيرة من التضخم في الوقت الراهن تعود إلى احتكار البعض للسوق. واستشهد على ذلك بتجفيف السوق من المواد الغذائية قبل رمضان من كل عام بهدف رفع الأسعار، منتقدا السلوكيات الخاطئة للبعض ولجؤوهم إلى تخزين المشتراوات بدون مبرر. واتفق معه في الرأي راشد الفاضلي، مشيرا إلى أهمية تقنين المشتراوات وتعزيز السلوكيات الشرائية السليمة من خلال مقاطعة الجهات المغالية في الأسعار. وشدد على دور الدولة في ضبط الأسعار من خلال التدخل في الوقت المناسب لمنع التجار من رفع أسعار بعض السلع التي لم تدخل في مكوناتها مواد خام ارتفعت أسعارها، مضيفا أن الكثير من المنتجين السعوديين ركبوا موجة رفع الأسعار بدون مبرر في كثير من الأحيان على حساب المستهلك. وطالب في الوقت ذاته بالمضي قدما نحو تخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين من خلال تفعيل التأمين الصحي ودعم برامج شراء المساكن للحد من التكلفة العالية للإيجارات والتهامها الراتب. وتساءل كيف يمكن لشاب راتبه لا يزيد على ثلاثة آلاف ريال العيش الكريم قبل التفكير في الزواج الذي التي تزيد نفقاته على 60 ألف ريال على أقل تقدير. وطالب الدولة بضرورة التفكير جديا في تأسيس جمعيات تعاونية لبيع المواد الغذائية بأسعار التكلفة تكون بمثابة ذراع لها لضبط الأسعار وقت الحاجة، مشيرا إلى أن هذه التجربة حققت نجاحات جيدة في الكثير من الدول. ولم يستبعد إمكانية التدخل في أي وقت لسن نظام للتسعير الجبري للسلع في حال اتجهت الأسعار نحو الانفلات.