طل علينا الطبيب البروفيسور محمد الفقيه، وتحدث وأسهب فظننا أننا في حصة تاريخ أو جغرافيا مركزة! لماذا يظهر طبيب في ليلة تكريمه من خلال منصة الاثنينية العريقة ليتحدث عن الأمس، وانكسارات السياسة وانعكاسات الحروب على المنطقة العربية، ماذا يريد أن يقول؟! بعد دقائق حضر الجواب، عرفنا أننا نجلس أمام طبيب يختلف، طبيب يصر أن يحمل في يديه سجلات التاريخ عوضا عن السماعة، وعلى وجنتيه وصمة نضال وبصمة كفاح، وفي عينيه وميض وأنين وشجن وعلى جبينه ذكريات وطن، سقط معطف الطبيب الأبيض ليحل مكانه رداء المعلم والأستاذ والمربي. هو أول جراح غير أمريكي ينال درجة بروفيسور من جامعة هارفارد الأمريكية، هو جراح القلب الماهر الحاصل على ثلاث زمالات بريطانية من كليات الجراحين الملكية البريطانية، ستة آلاف عملية ما بين زراعة قلب مفتوح وصمامات تكللت جميعها بالنجاح، مشوار مديد ابتداء منذ السبعينيات الميلادية، ليستمر إلى اليوم بلا انقطاع.. أوسمة محلية وإقليمية، وحفلات تكريم ومناصب، حتى هارفارد نطقت العربية، لم تسكت عن هذا التلميذ النجيب الذي تخرج ليعود إليها محاضرا، لتكرمه وتطلب منه أن يشرف على أقسام جراحة القلب هناك. وبعد كل ذلك الإنجاز، هو لا يتكلم عن الإنجاز، هو يخجل أن يسميه إنجازا، بعد كل هذا التاريخ لا تسمع مغامرات غرف العمليات أو تحديات المهنة أو صعوبة المعارك داخل أروقة المستشفيات أو هلع الحالات المرضية المخيفة، وكأنها كانت لقطات بسيطة لا تذكر في مشوار العمر، تجده يحكي لك عن أوضاع سياسية قاتمة في منتصف الستينيات الميلادية وحروب وانعكاساتها على الشعوب، يتحدث عن معاناة شاب طموح مع أمواج السياسة وتلاطمها وجنونها لتجعله يتأرجح كمن أصابه دوار البحر فيصر أنه لن يغرق متشبثا بالقشة ليصبح أحد أعظم الجراحين في العالم. لم يكن المشرط الخارق هو الفارق، بل كيف تحول هذا المشرط بين أصابعه إلى ريشة فنان يعزف بها على أوتار القلب أجمل الألحان، كما قال الدكتور حمود أبو طالب، أحد تلاميذه! كيف غدا الجراح رساما ماهرا يتقن فن النحت والرسم والنقش على أرواح البشر لتبقى بصماته راسخة في الأذهان والوجدان سنينا طويلة؟! كعادة المبدعين والعظماء رأينا كيانا وهامة، ورأينا رأسا تطأطئ تواضعا وأدبا.. رأينا هنداما بسيطا رأينا عينا لا تهمها الأضواء ولا تفكر بالمجد ولا بطلاوة الحديث، بل ظلت شاردة هائمة بعيدا هناك، تسأل يا ترى ماذا بعد؟! ونحن نسأل بعد كل هذا: لماذا تغيب هذه النماذج عن أعيننا؟ كيف لم نسمع عنهم ولم نقابلهم في الطريق صدفة.. كيف لم يجمعنا مصعد ذات يوم مزدحم، ولماذا لم نرتطم بأكتافهم عنوة في زحام الحياة، ولم نلامس أكفهم علنا نلنا من بركاتهم شيئا؟ كيف غابوا.. أو كيف غبنا نحن، وكأننا لا نعيش على نفس الكوكب، بل على نفس الأرض.. بل خلف ذات الحدود؟! لماذا صنعنا سياجا حولنا وكبلنا معاصمنا بقيود مقيتة وصبغنا كل شيء بلون السواد فتناثر وملأ الزوايا والأركان وغطى كل شيء، فغابت ملامح الورد، وذبلت الصورة.. وبقيت رائحة الفساد وعفن الخيانة يزكمان أنوفنا المشتاقة للحياة. تحية لعبدالمقصود خوجة، الذي يقف في الزاوية ويرفع الستار عن مشاهد تغيب في الزحام فيولد بحضورها بصيص نور وأمل، ألف باقة ورد محملة بعشرة آلاف بطاقة اعتذار لقلب الدكتور محمد بن راشد الفقيه الذي أشبعنا علما وخلقا وعطاء، نقول لك عفوا يا دكتور على إهمالنا، لا تؤاخذنا على جهلنا وتجنينا ولا مبالاتنا في حق نوابغنا، نقر الليلة بأننا كنا في معية جراح عاشق أتى من العالم الثالث، ليصبح رمزا لأجيال وقيمة في عالم أول لا يعترف إلا بالعمالقة.. دمت يا وطن بخير، بتلك الهامات العملاقة المعطاءة المحبة.