سمعت عنه.. وقرأت له وعنه.. وكل ما سمعته وقرأته استثنائي يوحي بشخصية استثنائية.. تحاول أن تتخيل تفاصيل هذا الشخص.. حديثه، هيئته، ملامحه عن قرب، ضحكته، سخريته، طقوس حياته، تعامله مع الحياة والناس والأصدقاء. تحاول أن تجمع كل ما تخيلته وتصهره في إنسان، لكنك كلما سمعت أكثر وقرأت أكثر تجد صعوبة في احتمال أن يكون مثل هذا الإنسان موجودا الآن.. تعاقب الزمن، والتفاصيل المتخيلة له تزداد تراكما وجمالا في الذهن.. وجاء الوقت الذي اصطدمت فيه عيناي به للمرة الأولى.. لا أتذكر جيدا ماذا حدث، ولا كيف؟ لأني كنت مشغولا بمقاربة ما أراه بما ارتسم في الذهن عنه.. تكررت بضعة لقاءات لكنها لم تكن كافية للغوص في أعماقه.. الشخصيات الاستثنائية تتزاحم على أعماقها الناس ليصبح من الصعب أن تجد لك مكانا خاصا.. كنت أتوق للانفراد به طويلا لأعرفه كما أشاء.. أريد أن أعرفه بعيدا عما هو معروف عنه.. أريد أن أقلبه على كل جانب أشاء؛ لأعرف كيف لإنسان أن يتحمل الحياة وتتحمله وهو بكل هذا الزخم فيه. وجاءت الفرصة الصدفة.. كانت بعيدا عن معشوقته التي يهيم بها كما لا يستطيع أحد.. في مدينة «تولوز» الفرنسية قرر ألا يفرط في دقيقة واحدة من استنشاق الحرية والجمال. قرر أن نخرج فور وضع أمتعتنا في الفندق. إلى أين؟؟ قال لي مبتسما: وهل يسأل أحد هنا إلى أين؟؟ كان المساء في بدايته.. السماء كرنفال من الألوان تكاد تنسكب علينا.. النسيم الخريفي اللذيذ يعانق الوجوه بحنان وعذوبة.. الأرض يحتشد فيها الجمال اللانهائي، وبدأت مسيرتنا، أنا و«محمد صادق دياب».. من ساحة تعج بالبشر مضينا باتجاه البحر، وحين قلت له ما أجمل هذا البحر يا أبا غنوة، قال: بحر جدة أجمل، لولا.... قلت ألا تنسى جدة حتى في حضرة هذا الجمال الجليل؟؟ قال بضحكة ساخرة: دا كلام!!.. مشينا كثيرا، وتوقفنا في محطات كثيرة.. كنت ألوح بالأشياء التي أريد أن أعرفها أكثر لكنه تحدث وتحدث وتحدث، وأنا أغبط نفسي لأني كنت المستمع الوحيد لذلك الحديث العذب الذي لا يمل.. يا له من مساء وأنا أستمع إلى الطفل، العاشق، الفنان، المثقف، المرهف، النقي، الساخر، المقبل على الحياة وكأنها لن تنتهي أبدا.. كنت أتأمل وأستمع إلى تأريخ لا يستطيع غيره أن يرويه مثله.. أبا غنوة من النادرين الذين يطوون المسافات بينك وبينهم في لحظة ليصبح صديقا حقيقيا لك وليس صديق اللحظة العابرة.. عدنا من السفر.. ولأن أشياء كثيرة تمضغنا وتستهلكنا في مدن الملح تباعدت لقاءاتنا لأسمع مؤخرا أنه موجوع وأن المرض قد نال منه وأجبره على الرحيل ليستطب وهو الذي يطبب القلوب بجماله.. شفاك الله يا أبا غنوة لتعود إلينا مفعما بالعافية.. نحن نحتاجك أيها العزيز لأن مثلك نادرين في هذا الزمن المشوه.. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 259 مسافة ثم الرسالة