كالأزهار المتفتحة التي تبهر الأنظار وتخطف الألباب، من فوق أكتاف قلوب عليهم رحيمة وعطوفة لأنهم فلذات أكباد يشعون ابتسامات في كل الأرجاء، فتداعبهم أيادي المارين وتلاحقهم عدسات الكاميرات، يرقبون في تنقلاتهم كل ما تقع عليه العين، لتختزل ذاكرتهم مشاهد رحلة الطفولة التي لا تمحى، أطفال صغار، لم تشغلهم مشاهدة الرسوم المتحركة في القنوات الفضائية، أو التمتع بالملاهي والمراجيح في العيد، عن الاستمتاع بنداءات التلبية في المشاعر المقدسة وهم يصعدون أكتاف ذويهم في عرفة ومنى، ويقلدون أقاربهم، في أداء المناسك، ورمي الجمرات الثلاث، ويتحللون من النسك بعد صبر وثبات من لحظة الإحرام وحتى يوم النحر متجاوزين كل تلك المخاطر التي كانت تحفهم في هذه الرحلة. صحيح.. للزحام سطوته وللتائهين أعذارهم في مدينة يقطنها ثلاثة ملايين حاج كمنى، لكن السلطات الأمنية الواقفة على راحة الجميع في هذا المكان المزدحم عاتبون على مغامرات الكبار ومجازفاتهم بصغارهم، فالمشهد هناك مهيب، لاسيما لحظة التصعيد وبين الجموع المتجهة إلى منى حيث لاحت على الأكتاف صغار يطلون بفزع وقلق من الحشود خشية السقوط والتدافع. «أطفال الحج»، مصطلح جديد، استلزمته الضرورات الجديدة، فالفريضة لا تكتمل أركانها إلا بتمام العقل واكتمال الرشد والاستطاعة وهي شروط لا تنطبق بأية حال على الأطفال. ذلك المشهد الموسمي لآلاف الأطفال، وهم يشاركون في أداء النسك، لا يزال الأكثر إغراء لعدسات المصورين، خاصة أن حجم الصعوبات التي يلاقيها الصغار في التنقل مع أهاليهم في المشاعر المقدسة، تخلق صورا مثيرة. وعلى الرغم من أن موسم الحج يمثل أكبر امتحان سنوي لخطورة الإصابة بالأمراض المعدية والوبائية، بسبب حجم الوجود البشري من الحجيج في رقعة واحدة، إلا أن الأطفال اخترقوا تلك الأوبئة ببراءة الابتسامة بعد أن تجاوز آباؤهم كل التحذيرات بعدم اصطحابهم إلى أماكن الازدحام لتصل تلك الأجساد الغضة أماكن الخطر. البعض يذهب في اصطحاب الأطفال إلى منحى آخر حيث يفضلون تعويد صغارهم على الحج، والقدرة على التحمل، وهي أمور يرونها ضرورية في أعمارهم الصغيرة، خاصة في زمن أصبح الترفيه فيه يأتي عبر جهاز التحكم ووسط ثقافة سريعة في كل شيء. وهذا ما يؤكده الحاج عبد المغني السيد الذي قدم للحج للمرة الثالثة، يقول «أحرص على اصطحاب أطفالي في هذا التجمع الإيماني ليكون مدرسة كبرى لهم من خلال هذه التجربة، ففي هذا الزمن يحتاج الأطفال إلى تربية جادة من خلال إبعادهم ولو لأيام معدودة عن حياة الرفاهية والتقنية التي خطفت ألبابهم»، ورغم أن جهات خيرية، وأخرى في بعض حملات الحج والعمرة، تساعد أولياء أمور الأطفال، بتوفير برامج مرئية من الرسوم المتحركة الأشهر ك«توم وجيري» و«بيك بانثر»، وأخرى تقدم رسوما إسلامية متحركة وسط إنتاج محدود منها، إلا أن غالبية الآباء يفضلون أن يظل صغارهم تحت أعينهم طوال الوقت، مخافة أن يحدث لهم مكروه كحالات الفقد، أو التسمم، أو إيذاء النفس، فيما يشدد أولياء أمور آخرين على مسائل شرعية يحرصون على تعليمها أولادهم لضمان صحة حج أطفالهم كحجة «تطوع» لا تسقط عنهم الفريضة بعد البلوغ. ومن جانب آخر، لا تغفل شركات الألعاب، حضور الأطفال في موسم الحج بكثافة، وقدرتهم على فرض قناعاتهم البريئة على نفوس ذويهم، في اختيار هدايا العودة من الحج، حيث يبدو المنظر مألوفا في الحج، والصغار هم من يقررون بالكلام وأحيانا بالإشارة نوع الهدية، بينما الوالدان يدفعان من دون نقاش، لكسب ود هذا البطل الصغير الذي نجح معهم في اجتياز أصعب امتحانات العمر بثقة وطمأنينة، وبعض الجروح البسيطة والكدمات، وحالات البرد والحمى. قائد مركز الأطفال التائهين في المشاعر المقدسة الدكتور ناصر الخليفي أرجع تنامي أعداد الأطفال التائهين إلى عدم مراعاة الآباء لتعليمات الجهات الأمنية حيث يصطحبون الأطفال إلى أماكن الازدحام كمنشأة الجمرات وهذا ما يقود إلى فقدانهم، حيث نستقبل خلال هذه الأيام مئات الأطفال المفقودين في مقرنا الدائم أمام منشأة الجمرات ونقوم بتقديم الألعاب الإلكترونية والتقنية والحلوى والشوكولاتة لهم لحين حضور آبائهم الذين يأتون في حالة اضطراب وخوف وقلق على فلذات أكبادهم، بينما تواجه فرق الكشافة السعودية المعنية بمساعدة التائهين على العودة إلى مقار حملاتهم في المشاعر المقدسة، جهودا كبيرا في إعادة عشرات الأطفال التائهين إلى ذويهم، وتمتزج الدموع في أحيان كثيرة بين الآباء والأمهات مع أطفالهم بعد رحلة من العناء والبحث، فيما تشكل تعليقات الصغار الطريفة على تلك المشاهد، نهاية سعيدة لحوادث ليس بالضرورة أن تنتهي كلها بالفرح في غفلة من الوالدين عن فلذات أكبادهم. الناطق باسم المديرية العامة للدفاع المدني الرائد عبد الله الحارثي بين ل «عكاظ» أن هناك جهودا كبيرة مبذولة من جهتهم للتوعية في هذا الجانب، وقال: لوحات إرشادية وشاشات بث توعوية تحذر من اصطحاب الأطفال في أماكن الزحام ولكن هناك اختراقات من بعض الآباء دون وعي بخطورة الأمر وهذا ما نحرص على توعية الحجاج عليه.