في الوقت الذي كان مجمل المسافرين على المسارات الجوية التقليدية يعانون من تداعيات انبعاثات بركان آيسلندا في أبريل ومايو الفائتين، كان ثمة مسافرون آخرون يجدون في المسار الجوي العالمي الجديد ملاذاً آمناً، وفرصة جديدة للتعرف على تجربة نقطتي «استكمال رحلات» صاعدة، يرتقي نجماهما بصخب ووثوق.. أعني تحديداً نقطتي: دبي وأبو ظبي. في الوقت الذي كانت أغلب الخطوط الأوروبية العريقة تعاني من أزمة في تكاليف التشغيل وأسعار الوقود وتصلب أحجام المبيعات، وتضخم في الهياكل الوظيفية، ناهيك عن تأثرها الدائم بتجاذبات الاتحادات العمالية، كانت شركات طيران منطقة الخليج العربي الأكثر رشاقة وبصيرة إدارية -الإماراتية والاتحاد بالذات- تسجلان نمواً هائلا في ارتفاع تدفقات وأعداد المسافرين، ناهز ال19%، السنة الفارطة وحدها. بل ثمة تهافت ملموس على الخدمات باهظة الثمن (Premium)، ضمن مبيعات الشركتين السالفتين، بارتفاع قياسي وصل إلى حد 25%.. يحدث هذا في عز أزمة الائتمان العالمي وأزمات شركات الطيران، ما حمل المسؤولين بجهاز الآياتا، الذين أصابهم الذهول، إصدار بيان رسمي اعتبروا فيه ذلك النمو «بالهروب -من لهيب أزمات قطاع الطيران- إلى الأمام». ولا تعود تلك النجاحات لتميز (الناقل)، وإعماله أساليب إدارية حديثة، وإخضاعه خدماته لمعايير جودة صارمة، فحسب، بل تتضافر معه حالة «المعابر» الجوية، وتفوق إدارات المطارات والجهات المسؤولة عن إدارة الطيران المدني في بلدانها المضيفة. التحولات والظروف الاقتصادية الجديدة ووفرة الثروات، تغير من خارطة الطيران العالمي، لتجعل من «الخليج العربي» مركزه وصرته.. وهم هنالك يدركون ذلك، ويعملون على استثماره. في دبي يفتتحون راهناً أضخم مطار على الكرة الأرضية؛ مطار آل مكتوم الدولي، المصمم لاستيعاب مائة وعشرين مليون مسافر سنوياً، فقط بعد أقل من ثلاث سنوات من إنجاز أجنحة التوسعة الهائلة في المطار الأساسي! هم يعملون على خلق أرضية صلبة لارتقاء الناقل المحلي موقعاً مرموقاً في سوق الرحلات «المحولة»، كما يعملون على توفير البنية التحتية اللازمة لجذب كبرى شركات الطيران الدولية لاعتماد مطاراتهم كمقرات إقليمية للطيران التجاري وخدمات الشحن الجوية. وليست تلك المشاريع ضرباً من ضروب الترف، فهي لا تتنزل في سياق التنافس الممجوج نحو اقتناء المنشآت الأضخم، وليست رماية على عماية، بل قرار استراتيجي واثق ينصت بإخلاص لمؤشرات النمو وما تمثله التحولات الاقتصادية في الهند والصين من فرص واعدة. إن ارتفاع الطبقة المتوسطة في الهند، يرفع من عدد مستخدمي الطيران المتوقع إلى 20% من عدد السكان، ما يعني سوقاً بحجم 240 مليون مسافر سنوياً. ناهيك عن الفرص التي ستشكلها الصين كوِجهة سفر مركزية ومزدحمة في غضون عشر سنوات من الآن. في أبو ظبي، في المقابل، ثمة قرار استراتيجي يجري تنفيذه واقعاً يقضي بتحويل العاصمة الخليجية لمركز الطيران الدولي الأول مع حلول عام 2030م. ثمة شركة عامة تم إنشاؤها هناك، تحمل اسم مبادلة للتنمية، بدأت فعلياً في شراء أصول شركات طيران ضخمة مثل رولس رويس، وسيكورسكاي، وفنميشينكا، تضمنت توقيع اتفاقيات افتتاح وحدات تصنيع وصيانة للشركات المذكورة داخل الإمارة، أقلها يناهز ال800 مليون دولار، كل هذا في سبيل توطين صناعة الطيران في أبو ظبي ودفعها نحو آفاق الريادة. كان قطبا وعملاقا صناعة الطائرات؛ بوينج وأيرباص قد اتفقا على التحالف مع «مبادلة» لتأسيس وِحدة «ستارتا» للتصنيع بمدينة العين، بغية إطلاق كيان يعنى بتقديم خدمات الصيانة وتوفير قطع الغيار المصنعة محلياً.. في خطوة استباقية تعزز من مؤهلات الإمارة كمحضن قادم لحركة الطيران العالمي. وِحدة «ستارتا» التي دشنت قبيل أيام بخمسمائة موظف، من المزمع أن تبدأ خط الإنتاج لقطع غيار طائرات أيرباص مع عام 2014م.. كما من المتوقع أن يصل عدد الموظفين فيها إلى عشرة آلاف موظف مع حلول ذلك الموعد المرتقب. أعلم أن المقارنة مع دول الخليج تؤرق مضاجع البعض، وتثير حساسيته وحفيظته، لكن نحن نقول: فيم العقد؟ فلنتذكر أن هذه تجارب نجاح باتت نموذجاً للدرس والنظر من قبل قطاع الطيران العالمي بأسره، وليس لجيران الإقليم وحدهم.. هي تجارب استطاعت قبل ثلاثين عاماً الانطلاق بمحض ورقة بيضاء وقلم حبر جاف، للتخطيط بصفاء لأهداف ومستقبل ينتزع حصته الضخمة من صناعة الطيران ومن فم اللاعبين الكبار، هذا فيما نحن غافلون، وبالرغم من كل مميزات الجغرافيا والأسبقية التاريخية والخبرة والعناصرية البشرية، لم ندرك سوى متأخراً، طيران.. «فرص» الصناعة! [email protected]