«لا إمام سوى العقل، مشيرا في صبحه والمساء» ليس أبو العلاء وحده من يقدس الرؤية العقلية هذا التقديس الذي يقتلع من أمامه كل نبتة شعور، فيسحق العواطف سحقا! ففي ثقافتنا العربية، وربما الثقافة العالمية أيضا، ينظر إلى العقل بتقدير بالغ وتعد أحكامه صوابا لا شك فيه، لذلك يكثر في هذه الثقافة النصح بأهمية الاحتكام إلى العقل عند اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام، انطلاقا من الإيمان بأن العقل لا يهدي إلا إلى الصواب. وفي مقابل ذلك يبرز التحذير والنهي عن اتباع العواطف والخضوع لصوتها، فهي كما يشيع لا تقود إلا إلى الزلل. بقيت إلى عهد قريب أؤمن بهذه الرؤية، فأنا لست سوى صنيعة هذه الثقافة، إلى أن شاء الله العلي القدير، أن أمر بموقف من مواقف الحياة المتعددة، جاء فيه الحكم بناء على ما يمليه العقل وحده، فبدا لي حكما خاليا من العدل، منحازا إلى جانب دون الآخر، فعدت إلى نفسي أسائلها: كيف غاب عني كل هذه السنين إدراك أن الاحتكام إلى العقل لا يخلو من الانحياز؟ ولا ينجي من الوقوع في الظلم؟ كيف دخل في روع الناس أن الاحتكام إلى العقل بمفرده، يضمن لهم الصواب؟ إن الله حين فطر هذا الوجود وما فيه ومن فيه، فطره على التوازن بين الأشياء، ومن التوازن وجود العواطف إلى جانب العقل، فهل الاحتكام إلى العقل وحده والخضوع لإملاءاته بعيدا عن العاطفة، يحقق هذا التوازن؟ إن أحكام العقل تجور كما تجور أحكام العاطفة، فالعقل لا يرى سوى مصلحة صاحبه، لذا يملي عليه توجيهاته بما يحقق تلك المصلحة وحدها بعيدا عن أي اعتبارات أخرى غيرها، كما يحدث غالبا في الحروب وفض المنازعات، حين تغيب رؤية العاطفة فلا مكان للعدل أو الرحمة أو الإشفاق أو أي مشاعر إنسانية أخرى، فيضحى بالأضعف في سبيل تحقيق مصلحة الأقوى، وبالأصغر من أجل منفعة الأكبر. إن الواقع يقول إن العقل يخدع، كما أن العواطف تخدع، وليس صحيحا ما يشيع من أن العقل لا يخطئ ولا يضل، فالعقل بإمكانه أن يزين ما يريد لصاحبه فيظهره له على أنه الصواب المنشود، فيصوغ التبريرات ويحكم التعليلات فإذا الجور خير وإذا التعدي حكمة. لكن العقل، رغم هذا فاز بالشهرة في مجال الصواب دون العاطفة، وبدا للناس أنهم متى أرادوا الإمساك بالصواب عليهم صم آذانهم عن صوت القلب والصلابة في خنق نبضه، ونسوا أن الله فطر الإنسان على الشقين: العقل والعاطفة، وأن تغليب أحدهما على الآخر يخل بالتوازن الذي يقوم عليه هذا الوجود. وكما أن العلم نتاج العقل، فإن الفن والأدب والجمال والحب وقبلها جميعها الإيمان، ما هي إلا نتاج القلب. ما البشر بلا عاطفة؟ إنهم يستحيلون إلى آلات صماء تدور وتنتج وقد تنفع، ولكن بلا إنسانية، فالعواطف كالعقل هي التي تسمو بالإنسان، فتعلو به فوق الحيوان وفوق الحجر.