لا يزال الأديب الصحافي عبد الله عبدالرحمن الجفري، رغم انتقاله إلى الضفة الأخرى، الاسم الحاضر في الإرهاصات الأولى لصحافاتنا، وحاضرا كبوح العطر في ذاكرة محبيه، وما زالت حروفه الأنيقة ودفقاته الرومانسية ذات المداد الأخضر، ورائحة الياسمين حتى وهي تعالج القضايا الاجتماعية من خلال عموده اليومي، أعني غير العاطفية، ما زالت كل هذه الأشياء الأكثر من متبرجة، وأكثر من محتشمة في الوقت نفسه، تعلن عن نفسها، وتعيد حراكها في عالم الذاكرة، ولا سيما أن مجيئها عبر دفات كتبه البنفسجية، كان في وقت مجيئها مبكرا، وصادف بعض الرفض، إلا بعض الرضا من المحبين للجمال والإبداع، ولهاثه ممزوج برائحة البارود الذي تتجسد فيه إيقاعات مدن الأسفلت. ولأن الراحل «المقيم» عبد الله الجفري بمثابة قمر أخضر ترك إرثا وعطاء أدبيا، وسفرا من البوح الوجداني، الذي تلاقى في مراحل مختلفة مع رومانسية الأديبة غادة السمان المفرطة، أو مع تسجيلية ولغة الروائية أحلام مستغانمي، وجمال تناغم كتابات أمس جدة الجميل اجتماعيا وثقافيا مع محمد صادق دياب، وجميعهم أصدقاء لصاحب القلم الأخضر، فإن أبا وجدي سيظل فارس الكتابة الرومانسية في أبهى صورها وتجلياتها. حب وعفوية ولأن المبدعين تظل ذكراهم حاضرة في ذاكرة الوعي الجمعي، ومحابر الأدباء والكتاب والمؤرخين، لذا فمن غير المستغرب أن يستعد فريق العمل المكون من الشاعر محمد إسماعيل جوهرجي وابن الجفري «وجدي» لإعادة إصدار (.. وغاب فارس الرومانس)، الذي جاء بمثابة كتاب من الحجم الكبير، يوثق مسيرة عبد الله الجفري بلغة سلسلة، وحروف مضمخة بالحب والعفوية، بعد نجاح الطبعة الأولى في التسلل إلى مكتبات معظم محبي الأديب الراحل، وهي الطبعة التي قدم لها الدكتور محمد عبده يماني، وعلى متن التقديم أكد يماني «أن الإصدار بمثابة شهادة (وفاء) من زملاء طفولة عبد الله الجفري، الذين عرفوا منزلته ومكانته، وما قدمه من فكر». ويمضي يماني في تقديمه للإصدار، ويعرج على «أن الجفري لم يكن أديبا سعوديا ذائع الصيت فقط بين قرائه في المملكة، وإنما له محبون وأصدقاء في مصر ولبنان على وجه الخصوص»، مشيرا إلى أن «الأدب كان يجري في دماء الجفري مجرى الدم من الإنسان». الأب الحنون ويتضمن الإصدار المدعم بالصور التوثيقية، كلمة حانية من وجدي الجفري إلى والده عقب وفاته بعنوان (إلى من أحبه جبريل إن شاء الله)، وفيها تترى كلمات الابن إلى أبيه مموسقة، حيث يقول فيها: «إلى روحك أيها السيد سليل النسب العريق الأب الحنون والصديق.. الأخ الأكبر الحبيب المحبوب العفيف القانع الراضي الوديع الهادي». إلى أن يصل إلى نهاية كلمته، ويقول فيها إنه «كان يتمنى لو أن الراحل الجفري قرأ الكم الهائل من المحبة في حياته». مقتطفات وصور وضم الإصدار مقتطفات من سيرة الجفري في صور منذ سنوات طفولته وشبابه، وخلال حياته العملية في الصحافة، وصورا له مع بعض القادة والزعماء العرب والأجانب، والأدباء السعوديين والعرب في الكثير من المحافل الثقافية، وهي صور تكشف كم كان الراحل محبوبا من الجميع، وله كاريزما من نوع خاص، ليس في الكتابة فقط، وإنما في الحياة الاجتماعية أيضا.. إلى جانب ذلك يتضمن الإصدار التوثيقي أغلفة إصدارات كتب عبد الله الجفري، وأسماء المؤلفات غير المطبوعة، ومنها روايتي (التدخل في أعماق هذا الليل) (وتعود الحرية وحيدة) رواية الزمن الفارط، إلى جانب رسائل متبادلة بينه وبين الكثير من الأدباء والشعراء في الوطن العربي. جوائز وجراح ويشمل الإصدار السيرة الذاتية للجفري والجهات التي عمل بها، والجوائز التي حصل عليها خلال مشوار حياته، منها الجائزة التشجيعية في الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1984، وجائزة علي ومصطفى أمين للصحافة عام 1992، التي أظهرت بعض الأشياء من «حتى» بينه وأنيس منصور، وظل جرحها واندمال جرحها.. حالتان تتراوح مكانها إلى أن رحل الجفري، حتى لو أن بعض صالونات الأدب القاهرية شهدت بعض إيجابيات الزمالة بينهما. كما يضمن الإصدار قصائد وكلمات قيلت في الراحل كتأبين له ولأدبه منها قصيدة (وغاب عندك الحرف وجيتار الأحاسيس) للشاعر محمد إسماعيل جوهرجي وفيها يقول: «جل الأسى بالحزن والزفرات واستلهب الحساس في الخلجات غاب الصديق ولم تزل أحلامه ثرى تفيض بعاطر النفحات» مرثية الطائر إلى جانب صورة شعرية لفاروق بنجر بعنوان: (مرثية الطائر المكي)، ومرثية للدكتور غازي القصيبي بعنوان (آه.. عبد الله)، وفيها يقول: «من يروي بعدك الفل ومن يمنح العشاق عطر الياسمين من يغني للجميلات ومن يصبغ الأفق بألوان الحنين» ورثاه وزير الثقافة الإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة بنص (غيب البقاء)، التي تبعت احتفاله بالمقدمة التي كتبها الجفري لآخر كتب ودواوين خوجة «رحلة البدء والمنتهى»، وكانت آخر ما كتب الجفري، رغم شدة المرض بمتابعة وتحريض من صديقهما المشترك الشاعر جوهرجي، وفيه يقول: «أواه يا غيب البقاء أواه يا هذا الذي في القلب يشعل كالحريق وبحثت في الدرب الخواء رحلوا إليه أحبتي رحلوا وما عادوا وما سألوا وما سمعوا النداء» البدء والمنتهى وفي جلسة محفوفة بالأدب وذكرى الجفري قبل أسابيع في منزله، قال الدكتور عبد العزيز خوجة: إن الجفري هو من كان صاحب فكرة تسمية الديوان بهذا الاسم «رحلة البدء والمنتهى». وكانت هناك مشاركة رثاء من الشاعر الدكتور حسين بن سهل، التي منها هذه الأبيات: «أطفأت شمعة وغاب البريق وزهور يغيب عنها الرحيق سنة الموت في الحياة بلاء من إله الورى فمن ذا يفيق يا أديبا على القلوب تولى في سطور من البيان رقيق وحروف راقصات في «ظلال» سحرها يذهل العدو والصديق» أصدقاء ومحبون ويمضي الإصدار مضمخا بكلمات الحزن من عدد كبير من محبي وأصدقاء الجفري في هذا الإصدار، منهم: الدكتور عبد العزيز الخويطر، حمد القاضي، تركي السديري، الدكتور بدر كريم، سعد الحميدين، أمين قطان، عزيزة المانع، هاشم الجحدلي، وعبدالمقصود خوجة. والراحل واحد من أجمل فرائد الأدب والإعلام التي تزين أو تكون الصالون الأدبي الأسبوعي لمحمد سعيد طيب (الثلوثية)، ومن أجمل الذكريات، الأمسية التي جمعت الراحل السيد الجفري بعد طول غياب بصديقه طلال مداح بعد أن كانا يجرفان من نهر الأدب والفن سويا في عهود مضت، شاركهما هذا الإبداع مشعل السديري والأمير الشاعر الجميل في كل شيء بدر بن عبد المحسن صاحب أجمل الأوصاف التي قيلت في السيد الجفري في صورته الشعرية «القوة.. يا أبو وجدي»، وفيها يقول: «زمان.. يوم العمر توه عمر توه عرفت الليل في جدة سحابة من حنين.. وطل شوارعها ضوها مبتل «ولوزة».. ولوزة تشرب النسمة وتتنفس ورق أخضر وتضحك في السما.. نجمة» إلى أن يصل: «زمان.. يوم العمر وردي تذكر... يا «أبو وجدي» ظلالك.. حبرك الأخضر قصيدة عمري الأول وكاس الشاي بالنعناع وأجمل ما كتب مشعل تذكر شيخنا الزيدان ولطفه لا غدا يحكي وعدنا مع «أبو تركي» سهرنا مع «أبو تركي» شروق الشمس في الأجفان زمان.. والله «يابو وجدي».