الهدف من توقيع العقاب هو المحافظة على مصلحة المجتمع وردع الجاني عن معاودة ارتكاب الفعل المؤثم وإصلاحه وتأهيله ليكون عضوا نافعا في المجتمع. تنقسم عقوبة الجلد في الشريعة الإسلامية إلى قسمين هما: الأول الجلد كعقوبة على الجرائم الحدية وقد حددتها الشريعة السمحة في (3) حالات فقط هي: القذف وعقوبته ثمانين جلدة، زنا غير المحصن مائة جلدة، وشارب الخمر أربعين جلدة. الثاني الجلد كعقوبة تعزيرية وقد ترك تحديد مقدار العقوبة للقاضي شريطة ألا تزيد عدد الجلدات عن (10) جلدات لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدود من حدود الله تعالى» ولقوله صلى الله عليه وسلم «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» ، وهناك من يرى أن العقوبة التعزيرية تقدر بحسب المصلحة شريطة أن يكون هناك تجانس بين الجرم والعقوبة. من المسائل التعزيرية التي تم تقنينها في المملكة جرائم الرشوة واستغلال النفوذ وجرائم العدوان على المال العام وجرائم التزييف والتقليد والتزوير. رغم هذا فإن هناك الكثير من المسائل الجنائية تواجه فراغا تشريعيا حيث لا زالت غير مقننة ويقوم القضاة بتطبيق العقوبات وفق اجتهادهم وجراء هذا الاجتهاد فإنه من غير المستغرب أن نجد أن هناك عقوبات تعزيرية كالجلد تتجاوز في جسامتها عقوبة الجرائم الحدية عقوبات الجلد تتجاوز في بعض الوقائع (2000) سوط وهذه العقوبات تتعلق بأفعال بسيطة كسرقة حدث لخروف أو بسبب نسب (تهمة) تهريب مخدرات لأحد الأشخاص أو شبهة تصفح مواقع إباحية أو الاستصحاب أو تهمة التحرش الجنسي. لقد تسبب الفراغ التشريعي في المسائل التعزيرية إلى انحراف وجه العدالة من خلال صدور أحكام لا تأخذ بعين الاعتبار الظروف المخففة أو المشددة والبواعث على ارتكاب الجريمة وخطورتها وجسامة الضرر وخطورة شخصية الجاني ومركزه وسوابقه القضائية وسائر الظروف والملابسات التي صاحبت الواقعة. كما أنه يلاحظ مخالفة الأحكام القضائية الصادرة في المسائل التعزيرية لمبدأ المشروعية «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص شرعي أو نظامي» المنصوص عليه في النظام الأساسي للحكم. إن عقوبة الجلد بصفتها عقوبة «تعزيرية» تعتبر من قبيل العقوبات البدنية ولها بعد إنساني لأن فيها امتهان لكرامة الجاني وإيذاء نفسي واجتماعي له ولأفراد أسرته. وقد خلصت مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان في عام 1997م إلى أن العقوبات الجسدية (مثل الجلد) تعد بمثابة التعذيب القاسي واللإنساني. وقد عرفت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية والتي انضمت إليها المملكة عام 1997م التعذيب في المادة الأولى بأنه «أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه». لقد تضمن نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية عقوبة الجلد لمهربي ومروجي المخدرات والحقيقة أن هذا النظام نص على عقوبات السجن بالإضافة إلى الجلد والغرامة المالية وهذه العقوبات جسيمة تخالف مبدأ توقيع العقوبة الأشد للفعل الواحد عند تداخل العقوبات. وبما أن المحاكم الجزئية تعد المختصة بتطبيق النظام فإن قضاة تلك المحاكم قد لعبوا دورا في سن مواد النظام وعقوباته وقد جاءت العقوبات بالشكل الذي يبتغيه قضاة تلك المحاكم. وفي اعتقادي أن عقوبات النظام بحاجة إلى إعادة نظر بحيث يتم الاكتفاء بعقوبة السجن باعتبارها العقوبة الأشد. ينبغي على القضاة عدم التوسع في إعمال عقوبات الجلد وقصرها على العقوبات الحدية وعدم التشهير بالجاني لاسيما إذا تعلقت العقوبة بامرأة أو حدث لأن النتائج التي سوف تترتب على تطبيق العقوبة قد تكون أسوأ من تلك التي يريد تحقيقها القاضي من وراء الحكم على الجاني بالعقوبة فقد لا يحقق تطبيقها الهدف أو الفلسفة التي وجدت من أجلها. من الملاحظ أن هناك عددا من القضاة بدأ مؤخرا في تطبيق عقوبات بديلة لعقوبة الجلد كإلزام الجاني بحفظ أجزاء معينة من القرآن الكريم أو نظافة المساجد أو الدخول في دورات مهنية أو تعليمية أو تنظيف الأماكن العامة. ورغم هذا فإن هناك صعوبات تواجه هذه العقوبات بسبب خضوعها للسلطة التقديرية للقاضي بمعنى أنه لا يوجد هناك وضوح في معرفة طبيعة العقوبات البديلة وماهية الأفعال المجرمة فالمتهم في المسائل الجنائية عموما لا يعرف سلفا ما إذا كان فعله يعد مؤثما أم لا ومقدار أو طبيعة العقوبة التي يستحقها الفعل الذي ارتكبه، وحتى القضاة الذين يطبقون هذه العقوبات نجدهم مختلفين في أحكامهم لوقائع متشابهة فضلا عن أن هناك صعوبة تعتري مراقبة تنفيذ العقوبات البديلة من قبل الجهات المعنية. حسب علمي أنه لا يوجد دليل مادي أو دراسة يمكن الاستناد إليها تثبت أن عقوبة الجلد تحقق الغاية من ورائها وهي المحافظة على مصلحة المجتمع وإصلاح سلوك الجاني بعد توقيع العقوبة عليه. بل قد يحدث العكس فقد يكرر المحكوم عليه سلوكه الإجرامي رغبة منه في الانتقام من المجتمع. وفي الختام، أتصور أن الشفافية في النظام الجنائي السعودي تستلزم إعادة تدوين العقوبات التعزيرية بما يتوافق ومقاصد الشريعة الإسلامية والتزامات المملكة الدولية. وقد حان الوقت لأن يقوم أعضاء مجلس الشورى بتبني مشروع لنظام العقوبات يضع حدا للاجتهادات والتباين والتناقض في أحكام الوقائع المتشابهة لأن الشفافية في النظام القضائي أصبحت الآن ضرورة ملحة والتزاما من التزامات المملكة في منظمة التجارة الدولية وغيرها من المنظمات الدولية. فضلا عن أهمية مثل هذا النظام في استقرار واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية إلى المملكة. إن التأخر في صدور الأحكام وعدم تسبيبها وكثرة ملاحظات محكمتي التمييز عليها يدلل على أن هناك خللا يشوب أداء عمل القضاة وهذا الأداء ناتج بشكل رئيسي عن غياب مدونة للأحكام الجنائية. هذه المدونة يجب أن تقنن تعيين العقوبة التعزيرية وتقديرها وجرائم الاعتداء على الحرية الشخصية كالاستدراج والخطف والحجز غير المشروع وانتهاك الخصوصية والجرائم الواقعة على النفس والجسم كالإجهاض والفعل المؤدي إلى الإجهاض والأذى النفسي والشروع في الانتحار وجرائم العرض والآداب العامة والسمعة كاللواط والاغتصاب ومواقعة المحارم والأفعال المنكرة والإغواء وممارسة الدعارة. هناك بعض الانتقادات التي توجه للمملكة من قبل بعض المنظمات الحقوقية ولهذا ينبغي على الحكومة أن تعد استراتيجية يتم من خلالها الاستفادة من تلك الانتقادات في تطوير مرفق القضاء. كما ينبغي دعم أوجه التعاون والتكامل بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية والجامعات والمحاكم ورجال الأعمال وجمعيات وهيئات حقوق الإنسان في المملكة بغية دعم الأبحاث والكراسي العلمية المتعلقة بدراسة الدوافع وراء ارتكاب الجرائم وإيجاد الحلول المناسبة لها وكذلك إيجاد الدراسات المقارنة بين أحكام الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي الدولي. @أستاذ القانون الاقتصادي المساعد في جامعة الملك عبد العزيز