محمد بن عبداللطيف آل الشيخ - الجزيرة السعودية العقوبات في الشريعة نوعان: حدود (مقدرة) بقَدَر مُحدد، لا مجال للاجتهاد فيها. والنوع الثاني التعزيرات؛ وهي كل عقوبة أراد منها الحاكم الزجر أو الردع، وتقويم الانحرافات في المجتمع، والضبط الأمني. ومن العقوبات المقدّرَة شرعاً عقوبة (الجلد)؛ وهي على سبيل الحصر: جلد الزاني غير المحصن (100) جلدة، والجلد في حد القذف (80) جلدة؛ إضافة إلى جلد شارب الخمر (80) جلدة؛ ولا يُوجد جلد في (الحدود) إلا هذه العقوبات الثلاث. النوع الثاني من العقوبات (التعزيرات)؛ وهي أيُ عقوبةٍ يقوم بها الحاكم بغرض الردع والتأديب، ولا يترتب عليها كفارة، ويترك تقديرها للقاضي؛ كما أن لولي الأمر صاحب البيعة أن يحدد العقوبات التعزيرية، أو يخففها، أو يغلظها، أو يعلقها، متى ما اقتضت ذلك المصلحة المقدرة من قبله (حصراً)، لا يُنازعه فيها منازع. لذلك أعطت الشريعة له دون غيره أن يُحدد العقوبات التعزيرية، أو يقننها، مقداراً وجنساً وصفات، متى ما رأى أن مصلحة الضبط الاجتماعي واستتباب الأمن يتطلب ذلك. يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (إغاثة اللهفان) ما نصه: (الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات و(الحدود) المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير (التعزيرات) وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوّع فيها بحسب المصلحة). وهناك أحاديث نبوية صحيحة نهت عن تجاوز الحاكم عشر جلدات في العقوبات التعزيرية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) متفق عليه؛ ومع ذلك نجد أن هناك كثيراً من القضاة لا يكترث بهذا الحديث الصحيح، فيعمد إلى تجاوز العشر جلدات في أحكامه (التعزيرية)، معتمداً على اجتهادات بعض الفقهاء التي أباحت هذه التجاوزات رغم التوجيه النبوي الصريح الصحيح بتقييد الجلد (التعزيري) في حده الأعلى بعشر جلدات؛ ولا اجتهاد مع وجود النص كما يقول علماء الأصول. ومن يرصد الأحكام الصادرة من محاكمنا يجد أن القضاة يلجؤون إلى عقوبة الجلد دون أن يكون لها ما يبررها أحياناً، وأحياناً بإسراف في عدد الجلدات غير مبرر، مثل القاضي الذي حكم على مريض نفسي في جدة حاول أن ينتحر بالجلد (50) جلدة إضافة إلى السجن. أو كجلد شابين سرقا خروفين (1500) جلدة متفرقة إضافة إلى السجن. والأصل في العقوبة في الإسلام - كما هو معروف - أن تحقق عاملين: الردع والتربية والمساعدة على تقويم انحرافات الأفراد؛ وبإمكان العقوبات غير الجسدية، كالعقوبات المالية مثلاً، أو الاكتفاء بالسجن وحبس الحرية، أن تؤدي الغرض التعزيري، دون أن ندخل في جدل عن صحة أو عدم صحة تجاوز عقوبة الجلد العشرة أسواط امتثالاً للحديث الصحيح. وطالما أننا نتحدث عن العقوبات التعزيرية، وأنها غير محددة في الشريعة، ويترك تقديرها وصفتها حسب الزمان والمكان وتقدير المصالح للقاضي، فهناك اجتهادات موفقة لبعض القضاة، اعتمدوا فيها ما يُسمى (العقوبات البديلة)، وهي العقوبات التي تنحى إلى التقويم أكثر من اتجاهها إلى الإيلام الجسدي وحبس الحريات؛ فيعاقب المخالف بعقاب مدني كأن يجبر على تنظيف أحد الأماكن العامة، أو يجبر على حضور محاضرات معينة من شأنها إيقاظ الضمير لدى المخالف، وتحفيزه ليكون رادعاً له عن العودة إلى مثل هذه الانحرافات. وقد لاقى مثل هذا النهج المبتكر والجديد من قبل بعض قضاتنا كثيراً من الترحيب من قبل قطاعات كبيرة من التربويين والخبراء النفسيين والاجتماعيين؛ فلماذا لا يجري توسيع العمل به على أوسع نطاق؟.. المهم أن نتذكر أن العقاب هو للتقويم وكبح الانحرافات قبل أن يكون علاجاً رادعاً أو مؤلماً. إلى اللقاء