أنا فتاة في العشرين من عمري، أقطن في مدينة جدة، أسرتي متواضعة وأحلامي صغيرة وذنبي أنني بريئة، غرقت في كارثة أمطار جدة يوم الأربعاء من شهر الحج والرحمة، تقاذفتني أمواج السيول يمنة ويسرة بدون حول مني ولا قوة ولم تفلح محاولاتي البائسة من التشبث بحبل الحياة، تعالت صرخاتي وتلوثت دموعي الطاهرة بذرات التراب، خنقت عبراتي بمرارة الموت فأسلمت الروح معلنة انهزامي واستسلامي في معركتي ضد تيار السيول الجارفة. لم تكن أحلامي كبيرة، بل كانت صغيرة أضأتها بشموع سنوات عمري العشرين، كان حلمي زوجا يحتضنني وأطفالا يلعبون حولي وبيتا أكون فيه ملكة وسيدة، تبددت أحلامي بكوابيس أخرى فعوضا عن يد الزوج الحانية انتشلت أيدي رجال الدفاع المدني جثتي الهامدة وحملوني على نقالة حديدية، وعوضا عن حلمي بالتزين بألوان العرس الزاهية لطخ وجهي بلون بني غامق موحش واتشحت بالبياض الذي لم يكن بياض ثوب الزفاف المطرز بل كان بياض ملاءات ثلاجة الموتى الباردة و الكفن الموحد. تبددت فرحتي بحلاوة وعذوبة زخات المطر التي استحالت دموعا على فقدان شبابي وضياع مستقبلي الذي لم يولد، طفقت الآن في عداد الموتى وختمت رحلتي في الحياة بمأساة إنسانية كنت أنا ضحيتها البريئة. جدة عروس البحر الأحمر التي سعدت بالسكنى في أرجائها لم أكن أعلم أن المطر سيغسل طبقة الطلاء القشرية السطحية التي تعلو وجهها فتكشف عن ملامح قاسية لمدينة عجوز متهالكة تفتقر لأسس وتخطيط المدن الحديثة، تعاني جدة بمرارة من عمق التناقض بين شوارع سحلها السيل وأخرى في الأحياء الراقية بدت جافة جفاف الصحراء في ذلك اليوم الممطر دون سيول أو كوارث. فليتركني كل جشع مفسد أن أرقد بسلام في قبري المضيء فأنا على الأقل بريئة وهم لم يؤدوا أمانتهم أمام رب العباد. ودعواتي لهم أن يهنؤوا بنوم عميق وتغمض جفونهم دون أن تجلدهم سياط تأنيب الضمير وأن يطمئنوا على أطفالهم دون الخوف من عقاب الله وسخطه. وأملي بعد الله في أن ينتصر ملك الحق والعدل لحقي في كل شيء. حقي في الأمومة التي سلبت مني وحقي في تدفق الشباب وزهو الطموح وجمال الأحلام، حقي في العيش كمواطنة عادية تسكن في حي متواضع، حقي في ذلك الثوب الوردي الذي اشتريته لقرب عيد الأضحى المبارك ولم أتباه بارتدائه أمام مرآتي، عزائي لحسرة أمي الثكلى وحرقة قلب والدي المكلوم، وبالغ أسفي لحزن أخوتي ووحدتهم من بعدي ومواساتي لألم زميلاتي ومعلماتي ومرارة ذكرياتهم مع بسماتي وضحكاتي.. د. ليندا فؤاد مرزا جدة