الشيء المزعج في كثير من الإشاعات التي يتناقلها الناس بسرعة عبر شبكة المعلومات هذه الأيام عن اللقاح المنتظر لوباء انفلونزا الخنازير (انفلونزا 2009) أنها أصبحت تأخذ طابعا علميا جادا في ظاهره، فهي تستغل بعض الحقائق أو الأحداث استغلالا خبيثا وتخلط الحقائق بالادعاءات وتستخدم مراجع موثوقة خارج مضمونها الصحيح أو تستند إلى مراجع ذات مظهر علمي وهي في الواقع غير ذلك، وكل ذلك يؤدي إلى بلبلة أفكار الناس العاديين بل حتى بعض المثقفين و المتخصصين. وقد ينتج عن ذلك أضرار فعلية إذا صدق بعض البسطاء هذه الإشاعات ومنعوا أنفسهم أو أطفالهم من تلقي اللقاح والاستفادة منه. الإشاعات طالت كل ما يمكن أن تطال من أن الوباء العالمي الحالي كله مؤامرة في مؤامرة بدأت بتصنيع الفيروس الذي سبب المرض نفسه ومن ثم نشره في كل دول العالم واستمرت في ما يخص الإنتاج المقصود للقاح له آثار جانبية مرعبة على البشرية أو لقاح يحتوي على مكونات خطرة أو فيما يخص الشركات الصانعة أو غير ذلك. أوبئة الانفلونزا والفيروسات المسببة لها موجودة على الكرة الأرضية من قديم الزمان ولا تنتظر من يقوم بتصنيعها ونشرها، والوباء الحالي كان متوقعا حدوثه منذ سنوات بناء على تكرار حدوث أوبئة مشابهة كل فترة. ومنشأ فيروسات الانفلونزا الحيواني وخواصها وقدرتها على التغير أصبحت كلها أمور معروفة. وآثار هذه الأوبئة الصحية والاقتصادية كبيرة وإن اختلفت من وباء لوباء ومن زمن لزمن. ونحن نعيش الآن معاناة واقعية مع الوباء الحالي. وليس من المعقول بعد التقدم العلمي والطبي الكبير أن تقف البشرية مكتوفة الأيدي حيال هذه الأوبئة بعد اكتشاف وتطوير أسلحة فعالة من الأدوية واللقاحات وطرق التشخيص الدقيقة. اللقاحات من أهم وأنجح الأسلحة الطبية على الإطلاق، ونحن نطعم الملايين من أطفالنا كل عام ضد اثني عشر مرضا فيروسيا وبكتيريا بواسطة لقاحات آمنة وفاعلة. هناك آثار جانبية لا أحد ينكرها لبعض اللقاحات ولكن هذه الآثار لا تقارن بأخطار الأمراض الأصلية، وهناك أخطاء أو حوادث أو مضاعفات حصلت في السابق مع بعض اللقاحات وتم تصحيحها، وبصفة عامة فإن التقدم الهائل في إنتاج واستعمال اللقاحات وفي فوائدها لا مجال للتشكيك فيه. لقاح الانفلونزا الموسمية السابق كان يستعمل بشكل روتيني وبملايين الجرعات منذ سنوات عديدة في كثير من دول العالم خاصة الدول المتقدمة وقد أدى إلى حماية الكثيرين من خطر الانفلونزا ومضاعفاتها. وهو من اللقاحات الآمنة والفعالة، ولكن فعاليته (حوالى 70 في المائة) لا تصل إلى مستوى لقاحات الطفولة المشار إليها أعلاه (كثيرا ما تتعدى 98 في المائة) والسبب هو مقدرة فيروسات الانفلونزا على التغير باستمرار مما يستوجب تعديل اللقاح سنويا وخاصة عند ظهور فيروس جديد مثل الفيروس الحالي. المحاولات مستمرة لتحسين لقاحات الانفلونزا وتطوير لقاحات جديدة. وهناك الآن لقاحان أحدهما يحتوي على فيروس ميت يؤخذ بالحقن والآخر على فيروس حي مضعف يؤخذ بالبخ في الأنف. وبعض الدول الأوروبية (وليس أمريكا حتى الآن) أقرت استعمال مادة دهنية في اللقاح تدعى «سكوالين» تشتق من زيت السمك وتوجد في كثير من النباتات والإنسان لتحفيز مناعة الجسم وتم استعمال هذه المادة في 22 مليون جرعة من اللقاحات السابقة دون حدوث مضاعفات. اللقاح المنتظر للانفلونزا الجديدة يشبه في طريقة تصنيعه وأنواعه ومكوناته اللقاحات السابقة للانفلونزا الموسمية في ما عدا تبديل الفيروسات السابقة بالفيروس الجديد. وهو يخضع لسلسلة طويلة من اختبارات الجودة والسلامة والكفاءة قبل إنتاجه وإلى مراقبة مستمرة بعد استعماله الفعلي. ويخضع لرقابة هيئات عالمية ومنظمات دولية كبرى لأن بلايين الجرعات سوف تستخدم منه. هل من المعقول أن نصدق أن اللقاح الجديد سيؤثر على مستوى الذكاء أو الخصوبة كما تدعي الإشاعات؟، أو أن مادة السكوالين أضيفت عمدا لإحداث مضاعفات خطرة ؟، أو أن استعمال فيتامين «د» سوف يكون أفضل من استعمال اللقاح الجديد؟، ( هل تذكرون الادعاءات القديمة التي لم تثبت صحتها عن فيتامين «c» والزكام؟). أما عن الحكاية المتداولة لتلوث أحد المنتجات السابقة في أحد فروع شركة باكستر في أوروبا فيكفي القول إن هذه الشركة ليست من الشركات الخمس الرئيسية في صناعة اللقاح الجديد وهي ( Sanofi Pasteur, Novartis, GSK,Medimmune, CSL).. هل تتوقعون أن تشتري الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها 195 مليون جرعة من اللقاح الجديد وتجتهد في توزيعها خلال الثلاثة أشهر القادمة على أشد الفئات عرضة للمرض لو كان هناك شك في سلامة اللقاح أو فاعليته؟. أخيرا.. أتمنى أن نتعود على الرجوع إلى مصادر علمية موثوقة مثل منظمة الصحة العالمية ومركز مكافحة الأمراض المعدية الأمريكي وما شابهها من مراكز متخصصة في الدول الكبرى وإلى وزارة الصحة في بلادنا لاستقاء المعلومات بدلا من الخوض في بلبلة الإشاعات المشبوهة التي تفيض بها الشبكة المعلوماتية.