كلمة التواصل التي تجري على ألسنة الكثيرين في الأحاديث والخطابات الشفهية، وترد كثيرا في الكتابات والمؤلفات النثرية، بأنماطها المختلفة، الفكرية والفلسفية، الدينية والاجتماعية، لكونها من الكلمات المحبذة في دلالاتها اللغوية واللسانية، الثقافية والأخلاقية، ويتعلق ويتفاضل بها شريحة واسعة من الناس لمزاياها العديدة. هذه الكلمة السهلة والبسيطة صنع منها وارث مدرسة فرانكفورت النقدية، المفكر الألماني المعاصر يورغن هابرماس فلسفة أصبحت فيما بعد واحدة من أكثر الفلسفات شهرة في ساحة الفكر الأوروبي الحديث، وعرف بها هابرماس وظل اسمه يقترن بها، وكسبت اهتماما واسعا في الدراسات والنقاشات النقدية والفلسفية والاجتماعية هناك، وما زالت تستقطب وتحرك الجدل والنقاش لأهميتها وقيمتها من جهة، ولمكانة صاحبها الذي يتربع اليوم على قمة الفكر الألماني المعاصر من جهة أخرى. فقد أعاد هابرماس تخليق كلمة التواصل من جديد، وأصبحت هذه الكلمة بعده هي غير هذه الكلمة قبله، وتغيرت منزلتها ومكانتها وقيمتها، وذلك لشدة التحول الذي حصل في البنية المفهومية لهذه الكلمة، ولحقلها الدلالي، حيث اكتسبت ثراء معرفيا، وتراكما نقديا، وموقفا متسيدا في صميم وقلب الفلسفة الأوروبية المعاصرة. وقد عرف هابرماس بهذه الفلسفة، وشرح أبعادها وخلفياتها في كتابه (نظرية الفعل التواصلي) الصادر سنة 1981م، وجدده في الطبعة الصادرة سنة 1984م، وعرفت هذه الفلسفة عند الباحثين والمفكرين والنقاد بفلسفة أو نظرية الفاعلية التواصلية، أو الفعل التواصلي. وأراد هابرماس من هذه الفلسفة الانتقال بالعقلانية من كونها ممارسة الذات إلى ممارسة المجتمع، من عقلانية الفرد إلى عقلانية المجتمع، العقلانية التي تتجلى في الحياة اليومية للناس عبر النشاط التواصلي، لا أن تظل العقلانية تدور في إطار فلسفة الوعي التي تضع العلاقة بين اللغة والفعل، كالعلاقة بين الذات والموضوع، حيث الذات هي التي تقوم بعمل شيء ما للموضوع، في حين يرى هابرماس أن العقلانية ينبغي أن تكون فعل المجتمع من خلال اللغة بوصفها أداة للتواصل. وفي تحليله الاجتماعي لهذه الفلسفة، يرى المحاضر في علم الاجتماع إيان كريب في كتابه (النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس) الصادر سنة 1992م، أنها ترتكز وتتقوم على ثلاثة عناصر أساسية، هي: أولا: إن العقلانية بهذا المعنى ليست مثالا نقتنصه من وسط السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، وتستلزم هذه العقلانية نسقا اجتماعيا ديمقراطيا يشمل الجميع، ولا يستبعد أحدا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى التفاهم. ثانيا: لابد من نظام أخلاقي ومعايير أخلاقية، يجري التوصل إليها عبر نقاش عقلاني حر، وعن طريق الإقناع العقلي وليس عن طريق القوة والقسر، ويعتمد في مضمون هذه المعايير على ظروف المجتمع الخاصة. بمعنى أن يكون للتواصل معايير أخلاقية تنظم عملية التفاهم والتبادل الفكري بين الناس، وتستند هذه الأخلاقيات على مبادئ عقلية، وهي التي يصطلح عليها هابرماس بأخلاقيات التواصل. ثالثا: وجود مجتمع ديمقراطي يكون فيه للجميع فرص متكافئة للوصول إلى أدوات العقل، للمساهمة في الحوار، حتى يكون لكل فرد صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرارات.. هذا قدر ضئيل من فيض نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، لكنه يكشف عن أهمية وقيمة هذه النظرية فكريا واجتماعيا، وكم نحن بحاجة إلى طلبها، والانفتاح عليها والتواصل معها، وهي الخبرة التي نفتقدها حين نتحدث ونكتب، وحين نناقش ونجادل حول فكرة التواصل، ونشعر بالحاجة إليها لتعميق هذه الفكرة وتجلياتها، وإعطائها قوة المعنى والإشعاع، لا أن تصبح مجرد فكرة لامعة في الشكل لكنها فقيرة في المحتوى، مع إدراكنا الشديد لأهمية هذه الفكرة والحاجة إلى تفعيل حركتها في مجالاتنا الثقافية والاجتماعية كافة، عملا بفضيلة التواصل. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة