من أكثر العوامل التي أسهمت في خلخلة القيم، هو التعامل مع الحقيقة بوصفها أصلاً ثابتاً أو مرجعاً مطلقاً أو مبدأ أوحد، ينبغي دركه والقبض عليه للتماهي معه واحتكاره أو لتجسيده وتطبيقه. وبحسب هذا المنطق تعامل الأفكار كمرايا للواقع، باعتبارها تنتج العلم اليقيني بحقائق الأشياء، وعلى نحوٍ تتطابق فيه المقولات والموجودات أو الكلمات والأشياء. وهذه مهمة مستحيلة أسهمت في تلغيم خطاب الحقيقة بأيدي عشاقها الذين اشتغلوا بنفي الوقائع لتصح مقولاتهم. ولا غرابة أن يكون المآل كذلك، لأنه لا وجود لحقيقة أولى ونهائية يمكن التيقن منها وامتلاكها. فالعالم هو ما لا ينفك يحدث ويتحول، من ظهور الإنسان حتى العصر الحالي، حيث تحول الإنسان إلى فاعل في مجريات الطبيعة، وبات هو المهيمن على المشهد وعلى سطح الكوكب. والمخرج هو التحرّر من أوهام الثبات والتطابق والتملك، للعمل بمنطق الخلق والتحويل أو التركيب والبناء أو اللعبة والرهان. بحسب هذا المنطق، ما بوسعنا أن نفعله هو قراءة ما يوجد أو يحدث، مما هو عصي على الفهم والوصف والمعالجة أو مما هو غير متوقع ولا منتظر، بخلق وقائع خارقة، في هذا المجال أو ذاك، تحيل الممتنع إلى ممكن. وهذا شأن القراءة الخصبة، أكانت لحدث أم لنص، إنما تتعامل مع الواقع كمعطى يختزن إمكاناته، أي كطاقة يمكن صرفها، أو بنية يمكن تفكيكها وتحويلها، أو حاجز يمكن كسره وتجاوزه، أو باب موصد نحسن صنع مفاتيحه. بذلك تتغير علاقاتنا مع الممكن، بفتح علاقات جديدة بين الأشياء، وعلى النحو الذي يتيح للفاعل البشري التدخل والتوسط والمعالجة، للتأثير في المجريات. هذا ما فعله البشر منذ بدأوا يفكرون ويتفكرون، أو ينظرون ويتدبرون، بدءاً من العصر الزراعي وما قبله، وصولاً إلى عصر الزراعة وما بعده، أي من عصر القطاف إلى عصر الشبكة: أن يخترعوا أو يبدعوا ما به يتغيرون ويغيرون علاقتهم بالواقع. لقد اخترعوا اللغات والكتابة، أو الأرقام والأعداد، أو المواد والصور، أو الآلات والأسلحة، أو الأساطير والآلهة، أو القواعد والمؤسسات، أو الفنون والآداب، أو العلوم والفلسفات... وكل خلق جديد يغدو واقعة لا عودة عنها إلى الوراء تسهم في تغيير علاقة الفاعل بمفردات وجوده، على ما هي مفاعيل الاختراعات والكشوفات والانقلابات الكبرى، التقنية والعلمية، أو الرمزية والثقافية، أو السياسية والمجتمعية. واليوم قد يتعدى الخلق عالم الإنسان إلى ما بعده، كما يتجلى ذلك في قدرته على اللعب في برنامجه الوراثي. هذا ما يفعله، مثالاً، عالم الفيزياء. فهو لا يقبض بنظريته على حقيقة الواقع، بل يخلق واقعة جديدة، تنشئ علاقات غير مسبوقة بين عناصر الطبيعة أو بين مكونات المادة، يمكن العمل عليها وتحويلها إيجاباً إلى طاقة كهربائية، أو سلباً إلى نفايات سامة قد تمحو الحياة من على وجه الأرض. وهذا ما يفعله الفيلسوف الذي يضع نظرية حول الحقيقة. إنه لا يقبض على حقيقة الواقع، بل يصنع حقيقته بقدر ما يؤلف نصاً يصبح هو نفسه واقعة تترك أثرها وتولد مفاعيلها على ساحة الفكر أو في حقول الثقافة وميادين المعرفة. وهذا شأن قارئ النص، إنه لا يقبض على معناه، لأن الممكن هو أن يقرأ فيه ما لم يقرأ، بذلك تتحوّل القراءة نفسها إلى واقعة تولّد أثرها وتترك أصداءها. وهذه حال المؤرخ أيضاً، ليس بوسعه أن يستعيد الماضي بحرفيته وحذافيره، طبقاً لما حدث، وإنما هو يخترع ويبتكر سيناريوات يقدم فيها قراءته لما جرى. من هنا نجد أن القراءات لا تتناهى، ولو كانت تتعلق بحدث واحد كالحرب أو الثورة، أو بنصٍ واحد كجمهورية أفلاطون أو مقدمة ابن خلدون. وتلك هي اللعبة والرهان، أن نفكر بطريقة مختلفة خارقة للشروط، تقوم على الخلق المستمر للوقائع، لإعادة صياغة الأولويات والمعادلات. الأمر الذي يقتضي النظر إلى العالم لا كحتمية مقفلة أو كسلسلة محكمة، بل كواقع مفتوح على تعدد الخطوط والمسارات أو على تفاوت السرعات والإيقاعات، بقدر ما هو مشرّع على احتمالاته الكثيرة ومفاجآته الداهمة، مما يجعله يقبل تعدد الخيارات والحلول والسيناريوات. شكلت النخبوية بدورها عاملاً من عوامل انهيار القيم. لأن ما طرحته النخب الثقافية من العناوين والمفاهيم، إما أنه استهلك، أو أنه لم يتحول إلى ثقافة عامة لدى الشرائح الواسعة. بهذا المعنى نحن نتجاوز فلاسفة ما بعد الحداثة، كفوكو ودولوز ودريدا، وسواهم من نقاد الحقيقة والعقل والإنسان، لأن أفكارهم بقية محصورة في الأوساط النخبوية، ولم تخلق مساحتها التداولية لدى الرأي العام أو في الفضاء الاجتماعي. من هنا انقلب الأمر ضد المثقفين الحداثيين الذين تعاملوا مع شعاراتهم كحقائق مطلقة، لمصلحة الحركات الشعبوية أو العنصرية كما في أوروبا، أو لمصلحة الحركات الأصولية الجهادية التي أفادت في العالم العربي من انهيار المشاريع الأيديولوجية القومية واليسارية، أو حتى الليبرالية، لتصعد على المسرح، وتطرح شعارها: الإسلام هو الحل الوحيد. وكانت النتيجة أن استجمع الإسلاميون مساوئ من سبقهم. وهذا هو مآل تقديس الشعار. ولا يجدي هنا القول إن المبادئ صحيحة ولكن التطبيقات خاطئة. لأن الأسماء لا تقول مسمياتها بصورة نهائية. نحن إزاء عبارات هي تواريخها، التي هي تأويلاتها وترجماتها المتواصلة، المختلفة والمتعارضة. ولهذا فإن التنوير لن يعود بعد الإخفاق كما كان عليه، بل يحتاج إلى إعادة النظر والبناء، تماماً كما أن الإسلام السياسي لن يعود كما كان عليه، بعد كل هذه البربرية التي تمارس باسمه. الأرجح أن تفقد المؤسسة الدينية القابضة هالتها القدسية، لتعود إلى أرض الواقع الذي لم تفارقه لحظةً، إذ هي منغمسة في يومياته وتفاصيله وهمومه وصراعاته على الثروة والسلطة. والمخرج هو كسر وصاية المثقف والداعية على القيم. لقد ولى الزمن الذي يدعي فيه فرد امتلاك مفاتيح الحلول للأزمات، أو تنظّر فيه نخبة لمجتمع بكامله. لم يعد المثقف، بعد كل هذا الإخفاق مؤهلاً لأن يدعي بأنه أكثر وعياً من الناس بهمومهم ومشكلاتهم. فكل مواطن منتج وفاعل، في هذا العصر، عصر المعرفة والمعلومة، له صلة بالحقيقة والحرية والعدالة والسلطة. مما يعني أن القيم باتت صناعة مشتركة، كما أن تطور المجتمعات هو عمل مشترك تساهم فيه كل قطاعات المجتمع ودوائره وقواه. ولو قارنا، مثالاً، بين بيل غيتس ونعوم تشومسكي، من منظور لغة الخلق والفَتح، نجد أن الأول كان خالقاً للوقائع التي غيّرت وجه الحياة. أما الثاني، فإنه وإن كان خلاّقاً في مجال اللغة، فقد كان بائع أوهام كمثقف أراد تغيير العالم. وهذا شأن الفلاسفة والعلماء عموماً، من أفلاطون إلى راسل وسارتر. فهم ينجحون في تحليل الواقع البشري، بإنشاء تراكيب مفهومية تتناوله بكل أبعاده ومستوياته وطبقاته، بتوتره وصراعاته، بمفارقاته وتناقضاته. ولكنهم يناقضون أنفسهم عندما يتصرفون كمصلحين أو مناضلين، إذ هم يفكرون بعقل وحيد الجانب مآله التبسيط والاختزال أو النفي والمسخ. والحصيلة هي أن تصدمنا الحقائق لتنتقم منا.لأنه لا شيء إلا وله ضده أو فيه ضده أو ينتج ضده ونقيضه، كما يبين نقد الحقيقة. ومن مفارقات الماركسية أنها تأسست على فلسفة التناقض والجدل، وانتهت كمشروع أيديولوجي لبناء مجتمع بشري خالٍ من التناقضات والنزاعات. ومن الفضائح أن المسلم المعاصر يتحدث عن صفاء العنصر ونقاء الأصل وطيب السريرة، فيما النفس الإسلامية تنفجر اليوم لتُخرِج المجتمعات العربية ما تستبطنه أو تختزنه، في أحشائها، من العنصرية والفاشية والشهوة التي لا ترتوي إلى القتل. والمَخرج هو اجتراح إمكانات جديدة للوجود والحياة، خصوصاً أننا مع الدخول في العصر الرقمي، ننخرط في واقع افتراضي مصطنع وفائق بصوره ورموزه وشبكاته وصحائفه الإلكترونية. نحن إزاء واقع غير واقعي، ولكنه بات الأداة لإدارة الواقع وتغييره. فلا جدوى من الوقوف في وجه الفتوحات والانقلابات والتحولات، بعقل تبسيطي يختزل الواقع الذي بات بما لا يقاس أكثر تعقيداً والتباساً، وأقل ثباتاً واستقراراً، بقدر ما أصبح أكثر تسارعاً وسيولة. من هنا حاجته إلى المقاربة والمعالجة بفكر مركب يشتغل على غير طوق ومستوى أو على غير طور أو بعد. خرافة المرآة ولذا، فالرهان هو الانخراط في عمل نقدي تتجدد معه مفاهيمنا للتنوير والعقل والإنسان، أو للتقدم والحرية والتنمية، عبر نقد الخطابات والبنى أو القوى والمؤسسات. مثل هذا العمل يمكن أن يتم على غير محور: 1- التحرر من خرافة المرآة والمطابقة، التي تحول الأفكار إلى قوالب جامدة أو إلى أصنام نظرية أو إلى أختام أصولية ترتد على أصحابها، لكي تنتج عجزاً وقصوراً أو عوائق ومآزق. فالفكرة الحية هي قدرتها على تغيير علاقتنا بالممكن، بما تفتحه من الآفاق للحياة والوجود أو بما تجترحه من الإمكانات لعمل الفهم والتشخيص والتدبير. 2- الكفّ عن سذاجة الاعتقاد بعقل محض، متعالٍ على التجربة أو سابق عليها. فالعقل هو كأي نشاط بشري له حدوده والتباساته، بمعنى أنه في ما ينتجه من أنظمة المعرفة وصيغ العقلنة، لا ينفك عن إنتاج خرافاته أو التستر على ممارساته المعتمة. مما يعني أن النقد التنويري هو عمل لا يتوقف من المراجعة والمحاسبة، لإعادة التركيب والبناء. 3- كسر الثنائيات التي فقدت صدقيتها، ولم تعد تنتج سوى فشل البرامج وإخفاق السياسات، كثنائية اليسار واليمين، أو الاشتراكية والرأسمالية، أو التنويري والظلامي، أو التقدمي والرجعي. ولنتوقف عند حدث كان محطّ النظر عالمياً. لقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية في فرنسا، منذ دورتها الأولى، سقوط ثنائيّة اليمين واليسار التي فقدت صدقيتها منذ زمن، ولكنها ظلّت قائمة حتى الآن، بسبب جمود القوالب وتكلّس الأفكار وشراسة القوى المضادة للإصلاح. وها هي تكتب نهايتها الآن، لتعلن أن فرنسا تحتاج إلى ابتكار نموذج جديد لحياتها يمكّنها من تركيب حلول لمشكلاتها المزمنة، المعيشية والاقتصادية والثقافية، خصوصاً أن الصراعات الأيديولوجية تغيرت، فاختلطت المشاريع وتداخلت البرامج والسياسات، على وقع الانهيارات والإخفافات، مما يعني أن الحاجة باتت ماسة، لاجتراح أو تركيب عناوين وسياسات ومعادلات جديدة، لإصلاح الأحوال وإدارة البلدان وهندسة المجتمعات. فالحلول الناجحة لا يمكن أن تتمّ اليوم بعقلية البُعد الواحد والقول الفاصل واليقين القاطع والحلّ الأقصى، بل بعقلية البعد المتعدد والفكر المركب والرؤية المفتوحة والحل هو مجرد رهان. 4- التوقف عن التعامل مع الحقيقة بعقل قدسي سحري أو طوباوي فردوسي، كما تعامل معها عشاقها من الفلاسفة والمثقفين. وكانت الحصيلة أن استبدوا بها أو وقعوا ضحاياها، لأن الحقيقة هي ما نقدر على اختراعه أو تحويله واستثماره. ازدواجية الحقيقة مرةً أخرى، هذا ما يفيده مصطلح «ما بعد الحقيقة» من الوجهة الفلسفية. إنه ليس مجرّد ممارسة التلاعب أو الخداع والزَيْف من جانب رجال السياسة والمال والإعلام، بل الانخراط في نقد خطاب الحقيقة، الذي أنتج كلّ هذه العدمية، كما تتمثل في كون حماة القيم هم أول من ينتهكها. بهذا المعنى نحن نتجاوز المفاضلة بين القول الفلسفي والقول الأيديولوجي، لأن الخطاب الفلسفي، شأنه شأن أي خطاب، إنما يتناسى حقيقته وسلطته، ويتستر على بداهاته ومسبقاته، بقدر ما يتأسس على ما يستبعده ويهمشه أو يتجاهله ويستعصي عليه دركه. من هنا لا نؤخذ بما يقوله صاحب الخطاب، بل نحتفظ بعيننا النقدية، تجاه ما يطرح ويعلن، لتسليط الضوء على مأزقه، وعلى نحو يفتح الإمكان لطرحٍ جديد أو قول مختلف أو صيغة فعالة. خلاصة القول إن أزمة القيم تتجاوز الصراعات بين التيارات الأيديولوجية والبرامج السياسية، على اختلاف منطلقاتها وشعاراتها. فالكل محشور في الزاوية، لأن الأزمة هي أزمة الإنسان، بقدر ما تطاول السقف الرمزي بمثله ومبادئه وعناوينه. والمخرج هو العمل على تجديد العُدّة الفكرية، على نحوٍ تنفتح معه آفاق وصُعُد جديدة للوجود والحياة، تتجدّد معها الصور والنماذج أو القيم والمفاهيم أو الطرق والأساليب. وما يحتاج إلى التجديد بشكل خاص هو مفهومنا للقيم بالذات. فحب الحقيقة والعدالة والحرية ليس غريزةً فطرنا عليها، أو مجرد مبادئ راسخة ثمة من يخرج عليها أو ينحرف عنها، وإنما هي بنى وعلاقات تحتاج إلى الرعاية الدائمة، لأنها تصنع وتبنى باستمرار. فالأحرى إذاً أن نقلب الآية، فلا ننطلق من البدايات المثالية أو الفردوسية حتى لا نصل إلى النهايات الكارثية أو العدمية. بل ننطلق من الواقع البشري، حيث الأصل هو الهوى والطمع والتمييز والصلف والتكالب والشراسة والعدوانية، فنعترف به وننطلق منه ونعمل عليه، على سبيل التحليل والتركيب أو التحويل والتبديل، لصوغ قيم وقواعد تتيح العيش المشترك والتقدم الحضاري، بأقل التكاليف استبداداً وفساداً وعنفاً، وبأكثر ما يمكن إنصافاً وعدالة في توزيع الخيرات المشتركة. ومع ذلك لا شيء نهائي في مجال الحقوق والحريات، التي يمكن التراجع عنها، تماماً لا وجود لحقيقة نهائية في هذا العالم.