لم تكن لتغدو الحياة ثريّة ومُغرية إلا في عصر العِلم، وما كان ليكون للعلِم مكان ومكانة لولا جهود (الدولة السعودية)، وما كان للدولة أن تكون لولا كفاح الأوفياء الذين سقوا الأرض بزكيّ الدماء، وجعلوا هذا الوطن لُحمةً واحدةً رغم أنوف الأعداء. ولو تقصينا تاريخ البشرية لوجدناها انطلقت من فرديّة ثم مجموعات بشرية مطحونة، تحت رحى الصراع والمعاناة، ثم تكتلات تحيطها نكبات، ولو دام لكل أسرة نظامها الخاص بها، ولكل عائلة تشريعاتها، ولكل قبيلة مشاعرها وقوانينها، لما بلغنا ما نحن عليه اليوم من وحدة وطنية، فالخطر كان يتهددنا، والمرض يتربص بنا، والجهل يرفد تطاولنا على بعضنا، دون أسباب موضوعية. كنّا لعقود نبحث عن وجود حي وحيوي، فجاء (العهد السعودي) فذوّب الحواجز، وصهر المكونات؛ وأعلى قيمة الإنسان، واعتنى بكل الفئات بمن فيهم (فاقدو رعاية والديهم) وأضفى على حياتنا معنى الحياة، وأرسى دعائم العدل والمدنيّة، وكفل الأمن، ورسّخ مقام المصلحة العامة على ما سواها، ونهض بالقوى وشدّها لما هو خير وأبقى، وإن بقي في داخل البعض حنين للمنبع الأول، الذي كان التناحر عليه وبسببه لا ينقطع، إلا أن الجميع بات ينعم بخيرات مصب النهر النقي، الذي وسع الجميع ريّاً وظلا. أعجبُ وغيري، ممن يأنف من أيديولوجيا حزبيّة، أو فكريّة، ويلعنها، وزمنها الذي ظهرت فيه، ثم يتعلّق ب(أيديولوجية النسب)، كما أطلق عليها المفكر العراقي الراحل فالح عبدالجبار؛ ولن تجدَ إنساناً متحضّراً نعم بخير دولته، واستشعر مكتسباتها، يتعصّب للمكوّن الأوّل، أو يضيق به ثوبُ انتمائه، الذي يكتمل جماله بالانتماء لمن منحه هويّته، ووفّر له خدماته، ونمّى مواهبه وموارده، وجمّل صفاته، وتحضّرنا (إن كان حصل) عامل من عوامل الانفتاح والتفاعل، اللذين يضعان صاحبهما في مرتبة تتناغم وتنسجم مع ما بلغه وطننا من منجز، دون التفات للخلف، إلا للمقارنة بين ما كنا فيه، وما أصبحنا عليه، لنحمد الله، ونثمّن جهود قادتنا. خلق الله البشر من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل؛ ولستُ أدري هل تقديم الشعوب كان للأسبقية أو للغالب الأعم؟ إلا أنه ليس للتفضيل حتماً، لأنّ الإشارة للذكر والأنثى في النص الكريم تلغي مبدأ التفاضل إلا بالتقوى (إنْ أكرمكم عند الله أتقاكم)، والتقوى ليست الصلاة والصيام، بل تشمل الاحترام والاهتمام والانسجام وحفظ النظام، وإذا كانت هناك إنجازات انتصرت بالتاريخ للجغرافيا، فهناك فئات لا زالت تتطلّع للانتقام من التاريخ بالجغرافيا، ولن تُفْلِح. ولعل بعض أرباب المال، أرحب صدراً، وأوسعُ رؤية؛ وأعمقُ معرفة، وأحدث وعياً على مستوى التنظير والعيش والمعايشة، ودليل ذلك اهتمامهم بالكلّ، وعدم إغفالهم للجزء، ولربما أوقع التعصب لمكونات ما قبل الدولة حتى بعض المثقفين والنُخب (في العنصرية)، والمفاخرة، والاجتهاد في إشعار الآخرين بعلوّ كعب، أو فخامة شِعب، وهذه تجزئة، فالدولة تنظر لكل المنتمين لها بعين واحدة، فالجميع مواطنون مع حفظ حق، كل من له سابقة أو سابغة فضل. جاء فوز عدد من أبناء قبيلتي غامد وزهران في منطقة الباحة بجائزة رجل الأعمال صالح بن عثمان آل فرحان، باعثاً على الاعتزاز، الفردي والجمعي، وعلى مستوى شخصي أفخرُ بما بين القبائل السعودية من أواصر الصداقة والصلة، وأفاخر بما بين غامد وزهران، من وشائج قربى، تجعلهما في أعين المُنصفين أسرة واحدة، بحكم العيش معاً في حيّز جغرافي واحد، من عظيم مآثره ومفاخره أنه لم يسجّل أي تجاوز أو تعدٍ بين القبيلتين، ولم تقم بينهما أي حربٍ على مرّ التاريخ، بل كانوا يتحالفون تحالف الأشقاء، ويفتدي كلٌ منهما أخاه بأعزّ ما يملك، فيما يتصاعد مؤشر العلاقات الاجتماعية الناجحة بينهما (الزواج والصداقة والزمالة) في المدارس والوظائف والمناسبات، وأعدها نموذجاً في العواصف والمواقف. ولم تقتصر جائزة التميّز التي يرعاها ويموّلها آل فرحان، على أبناء المنطقة؛ بل تم التوسع فيها لتشمل كافة المناطق؛ فشكراً للجائزة وللقائمين عليها ولقرية (دار الرمادة)، خصوصاً أن الجائزة جعلت من رؤية المملكة منطلقاً متجدداً لها، وحرصت على تطوير وتحديث منظومتها، ما يعكس الدور الإيجابي والغاية النبيلة لها. وتبقى للشعراء مساحة مباحة، لاعتداد كل قيف بقيفه، إلا أن فرادة أخ في موهبة أو مرجلة لا تلغي قدرات ومواهب الآخر، بل واجب أن يفخر العقلاء والأسوياء، بمنجزات بعضهم، خصوصاً إذا عاشوا في منطقة وتقاسموا اللقمة والجغمة، ولا تثريب على قبيلة تؤثر أبناءها، إلا أننا مع كل ما يذيب الحساسيات. تلويحة.. نحن نعرفُ بعضنا جيّداً قبل الدولة، ونعرفُ بعضنا أجيد في عصر الدولة، أعزها الله، وكل من صعد وعيه من صدره، ليسكن دماغه، سيرى بوضوح أكثر.