كثيرون لا يميزون بين التحليل الموضوعي للأحداث وبين إسقاط الأجندات والقناعات المسبقة الشخصية على الأحداث، ولهذا لا يقدمون أي فهم حقيقي للأسباب الحقيقية لها، ومن يريد معرفة الأسباب الحقيقية للشغب واسع النطاق الذي حصل في فرنسا وتضمن النهب والسرقات الجماعية وتخريب وتدمير الممتلكات العامة والخاصة بحجة مقتل فتى من أصل جزائري على يد شرطي عليه الرجوع الى المواد الوثائقية التي تسجل مظاهرات واحتجاجات الجالية الجزائرية في فرنسا على المجازر الجماعية التي كانت فرنسا تقترفها بحق الجزائريين الرافضين لاستعمارها للجزائر وسياساتها القمعية سواء داخل فرنسا أو في الجزائر وسيرى أنه رغم العنف القاتل للشرطة، فالمتظاهرون لم يكونوا يقومون بأعمال هدامة ضد المجتمع كالنهب والسلب وتخريب الممتلكات، بل كانوا يتصرفون بتحضر رغم همجية عنف الشرطة، وما حصل في فرنسا من شغب وتدمير حصل في أمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية بالتزامن مع احتجاجات داعمة لقضية عادلة ولم يكن العرب والمسلمون طرفاً فيها، فالحقيقة أن ما حصل في فرنسا وغيرها من استغلال للاحتجاجات للقيام بأعمال هدامة ضد المجتمع هو مرآة لنوعية الثقافة الأخلاقية السلوكية العالمية الحالية التي تباعدت عن ثقافة التحضر التي كانت سائدة عالمياً حتى سبعينات القرن الماضي قبل أن تحصل الثورة الثقافية الكبرى في الغرب ضد ما اعتبرته الأجيال الشابة منظومة قمعية اجتماعياً؛ لأنها تلزم الفرد بتقييد أهوائه ونزعاته الغرائزية، أي التصرف بشكل متحضر لصالح النفع العام للمجتمع، وتم نشر مفهوم مشوه عن الفردية يرى أنها تعني أن لا يضبط الفرد شيئاً من أهوائه ونزعاته ورغباته وغرائزه وانفعالاته، بل يطلقها بأقصى ما يمكنه مهما كانت لا أخلاقية وسلبية للمجتمع؛ ولذا حتى دون أحداث عامة كالمظاهرات والاحتجاجات الناس في حياتهم اليومية يتصرفون بشكل غير متحضر ووقح وهمجي مع بعضهم دون سبب من الطرف الآخر بدل ضبط هذه النزعات الهمجية حسب المنظومة التقليدية لأخلاق التحضر، ومن يطالع المواد الوثائقية ما قبل السبعينات وليس فقط أفلام الأبيض والأسود سيرى أن حتى البسطاء والفقراء في أفقر الدول النامية كانوا سابقاً يحاولون التصرف بتحضر ورقي وأناقة ليبدوا الرجال جنتلمان والنساء ليديز- سيدات، بينما حالياً مما ضاعف من استشراء النمط السلوكي الأناني المنفلت من كل عقال والهدام السائد بالثقافة العالمية هو ارتباطه بالحصول على مكافأة تتمثل في نسب المشاهدة المرتفعة للمقاطع التي تتضمن سلوكيات صادمة في همجيتها وخرقها لكل قيم وصور السلوك المتحضر، والناس مسيرون بشكل لا واعٍ بقطبي الطمع والخوف، وعندما تصبح السلوكيات الصادمة محل مكافأة في مواقع التواصل وتجلب دخلاً مادياً على صاحبها فلا عجب إن صار هذا سمتاً سائداً في الأجيال الجديدة؛ لذا العالم حالياً يحتاج لرؤية ملهمة تتبنى منظومة أخلاق التحضر والرقي والجمال والفضائل الجوهرية وتنشرها بالعالم كما انتشرت منظومة التحضر الارستقراطي عن الغرب ما بين نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين، وهذا تلقائياً سيمنح الكيان الذي سيتبنى تلك الرؤية الأخلاقية ويجعلها ثقافة ملهمة معولمة هيمنة أخلاقية عالمية معنوية استراتيجية، كما أن منظومة التحضر الارستقراطي الغربية الماضية منحت الغرب الهيمنة الأخلاقية الاستراتيجية على العالم، وجعلت كل العالم يحاولون التشبه بالغربيين للحصول على احترامهم، ومنحت الغرب حس الوصاية الأخلاقية على بقية العالم حتى الآن، وهذا تلقائياً سيعالج الكثير من المعضلات الأخلاقية الهدامة التي استبدت بالثقافة العالمية حالياً كأجندة الشذوذ والأرهاب وانتشار الجريمة والعنف الأسري والاجتماعي والتيار اليميني العدواني الذي يقوم بسلوكيات غير متحضرة مراهقة مثل استفزاز المشاعر الدينية للأمم الأخرى بإهانة مقدساتها.