هناك حكمة صينية قديمة تقول إن فرض قوانين تضبط السلوك يدل على الافتقار للثقافة الصانعة للأخلاق؛ لأنها تكون أشبه بالعقاقير التي تبقي أعراض المرض تحت السيطرة لكي لا تتجاوز حدود الخطر، ولا تعالج أصل المرض، ولا تولد وقاية ومناعة ضد الإصابة بالمرض، ولذا مقابل «لائحة المحافظة على الذوق العام» التي هي بمثابة المداوة الموضعية لأعراض المرض يجب أن يكون هناك قسم آخر للمعالجات المعمقة يعمل على علاج المشكلة من أصولها وجذورها الثقافية، ويخلق بذلك الوقاية من المرض وتسمى تلك المعالجات بالغرب «sensitivity training- تدريبات الحساسية» وهي عبارة عن منظومة آليات تأهيلية تعليمية تلزم بها الشركات والمؤسسات الحكومية الغربية منسوبيها وتعمل على تأهيل الموظفين على تطوير وعيهم بالآخرين ومراعاة شعورهم واعتباراتهم وحساسياتهم وتأثير أنماط التصرف الشخصي عليهم، وهناك مؤسسات علمية مخصصة لأبحاثها وتعليمها وأقدمها بأمريكا مؤسسة «NTL Institute» وتنفق الشركات الأمريكية 300 مليون دولار سنوياً على تدريبات الحساسية، وعقوبة من يؤذي الآخرين معنوياً بالغرب إلزامه بدورة «تدريبات الحساسية» فغالب الناس لا يولدون بحساسية مرهفة ويحتاجون لتعليم وتدريب لاكتسابها، وهي تساعد على تكريس «الوعي بالذات» الذي يجعل الإنسان يقيّم نفسه كما يقيّم الغرباء، مما يحسّن بيئة العمل ويزيد الإنتاجية ويعالج تلقائياً كل الظواهر السلوكية السلبية الناتجة عن الافتقار للوعي بالذات كالعنف الأسري والطلاق والعنف الاجتماعي، وكثير من أفضل الكفاءات يستقيلون بسبب فظاظة المعاملة رغم الرواتب المغرية، وهناك مثال واقعي يدلل على أن الفظاظة تتسبب ليس فقط بخسائر مالية بتكاليف التقاضي بسببها، إنما أيضاً تتسبب بخسائر اقتصادية وإفشال الخطط الاقتصادية العامة فمجلة «التايم» الأمريكية نشرت قائمة بأفضل 100 مكان تنصح بزيارتها-2021م- ضمنها دولة عربية معينة، وبنفس الأسبوع انتشر خبر تصويت موقع «ريديت-Reddit» الأمريكي العالمي حول «أكثر بلد لا يرغب الناس بتكرار زيارته»، فكانت النتيجة ذات الدولة العربية، مما أفقدها فائدة ترويج التايم لها كوجهة سياحية، وحسب الخبرات الشخصية التي سجلها الناس من أنحاء العالم بالتصويت فالسبب سوء أخلاق وسلوك ومعاملة أهلها، بينما بالمقابل تتصدر دول أخرى قائمة أكثر الدول التي يرغب الناس بتكرار زيارتها وترسيخ تعاملاتهم معها بالدراسة والاستثمار والإقامة فيها كاليابان بسبب حسن أخلاق ومعاملة أهلها، وتتشكل الانطباعات العامة ابتداء من العالم الافتراضي الذي لا يزال لا يمكن تطبيق «لائحة الذوق العام» عليه فحسب القائمة السنوية لشركة مايكروسوفت لتصنيف الدول التي سلوك أهلها أكثر تحضراً ورقياً عبر الإنترنت «Digital Civility Index/ DCI-لائحة التحضر الرقمي»، تصدرت الدول العربية القائمة بالهمجية وسوء الأخلاق والمعاملة غير المتحضرة عبر الإنترنت، وبالطبع هذا لن يولد انطباعات إيجابية لدى الأجانب ويرغّبهم بالسياحة والدراسة والاستثمار والإقامة بهذه الدول، ولو كانت هناك ثقافة مكرسة لمراعاة حساسيات الناس بوازع ذاتي وليس خوفاً من العقوبات لما كانت هناك أصلاً حاجة للائحة للذوق العام ولا كثير من القوانين التي تحمي الناس حتى الأهل من بعضهم، لذا أتمنى إنشاء هيئة عامة ل«تدريبات الحساسية» مما سيحدث نقلة بنوعية الثقافة العامة السائدة وما يتولد عنها من أنماط سلوكية خاصة وعامة، وبالعصور الوسطى ساد تنافس وتفاخر الرجال المسلمين بإظهار رهافة حساسية شعورهم بالآخرين ومراعاتهم لهم بخاصة النساء وسميت هذه الثقافة «الفتوة» وذكر ابن القيم بكتابه «مدارج السالكين» أمثلة لها لا تكاد تصدق عن مدى رهافة حساسية مراعاة رجال «الفتوة» لمشاعر النساء وكل الخلق حتى مشاعر النمل والنبات، وصنفها كأعلى المراتب الروحية والأخلاقية، ويقول المؤرخون إن تلك الثقافة انتقلت للغرب عبر الأندلس وعرفت بالغرب بثقافة «الفروسية-Chivalry» ولاحقاً ثقافة «الجنتلمان».