استحضرتُ وأنا أتصفح رأياً لتشيخوف عن دور الناقد، يقول فيه: «إني أقرأ -خلال خمس وعشرين سنة- النقد الذي يُكتب حولَ قصصي، ولكني لا أذكر الآن أي إشارة ذات قيمة، ولم أسمع أي نصيحة طيبة»، أقول استحضرتُ معه انحصار دور النقد الأكاديمي في أروقة الجامعات، وابتعاده كثيراً عن المبدع ونصه وعن الناقد غير الأكاديمي. فعلى الرغم من أن نقد الأعمال الإبداعية كان يعتمد في السابق على الذوق والدربة الشعرية؛ وفقاً لمعطيات كل عصر، فإن نقاد هذا الاتجاه التقليدي أنتجوا آراءً نقدية فعّالة ومستمرة في تقويم الأعمال الأدبية حتى يومنا هذا؛ لأنها نتجت عن دربة وخبرة وأناة، وكانت تلامس مقصدها الأساس دون قيود، والناقد فيها لم يكن قارئاً متذوقاً فحسب، بحيث يمتعه النص أو لا يمتعه، وإنما كان فاحصاً متذوقاً ينطلق من منطلقات مُباشرة -هي في إطارها الزمني- أسس ذوقية، وإن غلبت عليها الانطباعية؛ وعملية التذوق -في أصلها- عملية انطباعية. بيد أنه بعد تطور العلوم وتساقيها فيما بينها، اتجه النقد -حدّاً من الانطباعية- في قراءته الإبداع وإصدار الأحكام إلى المناهج النقدية الحديثة التي ظهرت؛ لتكشف عن مكامن الخلل والقصور في النصوص؛ ولتثير الفكر النقدي كذلك؛ للنظر في بواطن النص من جوانب فلسفية متنوعة؛ ما من شأنه أن يبني معرفية تراكمية في الحقل النقدي، تكون بمثابة إبداع آخر يسير بموازاة المنتج الأدبي، يستفيد منه الأديب والناقد غير الأكاديمي. لكن اللافت والأهم أن ما تشهده بعض منجزات النقد الأكاديمي التي تقارب الإبداع، لا تخرج عن كونها حشواً لمفاهيم غامضة وأسماء برَّاقة وأطر نظرية جاهزة (صيغت بمنهجية أكاديمية)، وهو حشوٌ قيَّد النقد وغيَّب روحه وأثقل كاهله، فصار عاجزاً لا يقوى على النهوض للكشف عن مكامن الخلل أو الضعف وفق ثقافة رفيعة تستفيد من أحدث النظريات النقدية الحديثة؛ مما يترك أثره في المبدع أو المتلقي الذي يبحث عن خبرة نقدية مؤسسة على منهجية تساعده في تطوير العمل الأدبي أو قراءة النصوص واستنطاقها؛ ليصبح نقداً سطحيّاً باهتاً لا يكاد يثير فكراً للنظر في النص، ولا يبني معرفة تراكمية -التي هي الهدف الذي يفترض أن تقوم عليه الدراسات الأكاديمية النقدية عامةً-، بل إن ما يُلمس في هذه الدراسات لا يبتعد عن كونه «فوضى منهجية كبرى» كما يصف ذلك أستاذ النقد محمد القاضي، تهتف بتطبيقها للمناهج قديمها وحديثها، وليس فيها إلا تنظير مفرَّغ في قوالب نقدية جاهزة، فغدت دراسات لا تُسائل منهجاً ولا تقر خللاً أو ضعفاً، يخرجها الدارس بعناوين رنانة وهو مقيد فيها بكلاليب تلك القوالب من جهة، ومثقل بالصرامة الأكاديمية وشروطها العلمية من جهة أخرى، فلا ينتفع بها درسٌ نقدي ولا مبدع ولا ناقد!؛ ما يعني موت الحساسيةَ النقدية لدى هذا الناقد الأكاديمي وانقطاعه عن محيطه في عزلة تامّة. ولا أجمل من أن يكون النقد حيويّاً قريباً من مستفيديه بانفتاحه الرشيد على النص ومحاورته، مع تخلصه من قوالب المناهج الجاهزة وقيودها. هذه الخطوات قد تفتح آفاقاً رحبة للنقد حتى وإن كانت الغاية منه هي دراسة جانب محدد؛ ثقافي، أو نفسي، أو اجتماعي، أو إثبات لفرضية أو جدلية فيها، فأي عملية نقدية فلسفية تبتعد عن المساءلة، والمحاورة، بما يفيد النص أو المتلقي -في كل العلوم- تنعدم جدواها. وقد يكون في نقد النقد -على ما فيه من مزالق خطيرة لا يمكن تجاوزها إلا بثقافة وعلم ومعرفة وصبر- لما قد أنُجز من دراسات نقدية أكاديمية، فرصة لتشكيل حَراك نقدي فاعل يعين على مراجعة منجزات النقد الأكاديمي وجعلها -في مجملها- قريبة من مستفيديها.