الحديث عن الصين، ونظامها السياسي، وبخاصة واقع «الأحزاب السياسية» في الصين يعني الخوض في جوهر النظام السياسي الصيني الحالي، وما يتخذه هذا النظام من سياسات، داخلية وخارجية، وبخاصة سياسة الصين نحو منطقتنا العربية. وبعد انهيار المعسكر الشرقي، وزوال الاتحاد السوفييتي، بقيت أربع دول يحكم كل منها حزب (شيوعي) واحد، هي: الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا. وما زال «الحزب الشيوعي الصيني» هو الحزب المهيمن على جمهورية الصين الشعبية، منذ إعلانها عام 1949م. ولكنه حزب مختلف عما سواه من الأحزاب السياسية «الوحيدة»، أو التي تفرض نفسها، بالطرق المشروعة وغير المشروعة. إذ أصبح هذا الحزب مختلفا، ومتميزا، عن غيره من الأحزاب المشابهة، خاصة بعد ما تبناه من إصلاحات، بدءا من عام 2012م. ومعروف أن هذا الحزب يسمح لثمانية أحزاب سياسية صينية غير شيوعية، بالتواجد، والتنافس معه على السلطة. ولأهمية الصين لعالمنا العربي بعامة، ومنطقة الخليج العربي بخاصة، سنلقي، بعض الضوء على السياسة الصينية الحالية والقادمة نحو منطقة الخليج. **** وهناك «مداخل» مبسطة، تساعد على فهم «السياسة»، بصفة عامة.. والسياسة الخارجية لأي دولة، بصفة خاصة. ومن ضمن هذه المداخل اعتماد تعريف «السياسة الخارجية» (لأي دولة) بأنها: الأهداف التي تسعى تلك الدولة لتحقيقها خارج حدودها -أو تجاه قضية، أو جزء أجنبي معين من العالم- و«الوسائل» (الإستراتيجية) التي تتبعها.. لتحقيق تلك الأهداف. لذا، فعندما نحاول معرفة السياسة الخارجية لدولة ما معينة تجاه جهة، أو منطقة، خارج حدودها، فإنه يمكننا تلمس «الأهداف» المبتغاة، و«الوسائل» المتبعة، للوصول إليها. ومجموع الأهداف والوسائل هو: سياسة تلك الدولة نحو الجهة المعنية. وكثيراً ما يكون هناك تداخل بين الأهداف والوسائل.. مما يصعب أحياناً التمييز بين الغاية والوسيلة. وسنتبع -كالعادة- هذا المدخل المبسط لمعرفة أهم ملامح السياسة الصينية الحالية نحو العالم العربي بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة. **** ويمكن القول إن: «أهداف» السياسة الصينية نحو المنطقة العربية ظلت شبه ثابتة منذ بدء تفعيل هذه السياسة عام 1975م. أما «الوسائل»، التي تتبعها الصين لتحقيق هذه الأهداف، فهي تتغير من فترة لأخرى. ومضمون الأهداف الصينية الحالية تتناغم غالبا مع كثير من المصالح العليا للأمة العربية والإسلامية، وإن كانت تتقاطع، أو تتناقض، مع هذه المصالح في بعض الحالات. ومعروف أن صداقة حقيقية، وتعاوناً إيجابياً، بين أي أمتين، لا ينشأ، إلا إذا ضمنت الأهداف والوسائل تحقيق المصالح الحقيقية المشتركة للأمتين معاً. **** لا يجادل أحد في مدى أهمية المنطقة العربية، وما تحظى به من إرث حضاري عريق، وموارد بشرية ومادية هائلة، وإمكانات طبيعية فريدة. وإن كانت معظم هذه الإمكانات (وما زالت) أحد أبرز أسباب ما تعانيه من أطماع ومحن وقلاقل. في هذه المنطقة قامت اثنتان من أهم وأقدم أربع حضارات إنسانية في التاريخ. وقدمت هذه المنطقة لبقية البشرية الكثير من الإسهامات الحضارية. وكانت المنطقة -وما زالت- مهد الأديان السماوية الثلاثة. ومن حيث «الموقع»، تتربع في نقطة الوصل بين قارات العالم القديم، آسيا وأفريقيا وأروبا، وتشرف على أهم طرق المواصلات البحرية العالمية. وفى الوقت الحاضر، يعرف العالم أنها تحتوي على مخزون الطاقة الأكبر (نفط، غاز) في كوكب الأرض، إضافة إلى ثروات طبيعية هامة أخرى، لا توجد في غيرها من المناطق. ولهذه الأسباب، وغيرها، كانت هذه البقعة -وما زالت- محل اهتمام وأطماع القوى الدولية الكبرى. وتظل ميدانا للتنافس «الاستعماري» بين هذه القوى. وكثير من أنحاء هذه المنطقة تعتبر أكثر البلاد تعرضا لما يعرف ب«الاستعمار الجديد»، كما يقول كثير من علماء السياسة. فالهيمنة على هذه المنطقة تسهم في السيطرة على العالم. ولا يمكن لأي قوة أن تكون كبرى، أو عظمى، ما لم يكن لها نفوذ قوي بهذه المنطقة. ومع صعود الصين، كدولة عظمى، واحتياجها المؤكد لاستيراد الطاقة، والمواد الخام، وضمان سوق واسع لتصريف منتجاتها المختلفة، كان لا بد أن تهتم الصين بالعالم العربي، وبخاصة منطقة الخليج. وهي تدرك تماما أهمية هذه المنطقة، والتنافس الدولي الشرس على بسط النفوذ فيها، خاصة من قبل الدولة العظمى الأولى، أمريكا، وبقية الدول الكبرى: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا. **** ويمكن أن نلخص أهم أهداف السياسة الصينية نحو المنطقة، متبعين إطار الأهداف/ الوسائل، كالتالي: 1- تثبيت أقدام الصين بالمنطقة: إن «محور» السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج العربية يتركز في: محاولة الصين ضمان انسياب مستورداتها من النفط والطاقة من دول الخليج، وبأقل تكلفة ممكنة. علما أن الصين تستورد الآن (2020م) ما نسبته 18.6% من إجمالي استيراد العالم من النفط. وفي نفس الوقت، تسعى الصين لضمان سوق واسع ومغرٍ لتصريف المنتجات الصينية المختلفة. وهذا لا يمكن أن يتحقق، بالمدى الطويل، إلا عبر الوسائل التي تتبعها الصين، ومنها: دعم العلاقات الصينية مع دول المنطقة. وسنوجز هذه الوسائل لاحقا. وستظل الصين بحاجة لاستيراد المزيد من الطاقة. وأغلب مصادر تصدير النفط الأخرى تظل أقل ملائمة لاحتياجات الصين، بما في ذلك إمدادات النفط الإيراني. 2- المحاولة الصينية الدائمة لتقليص النفوذ الغربي (نفوذ الناتو) بالمنطقة، وخاصة النفوذ الأمريكي فيها: وتلك مهمة يصعب تحقيقها، في ظل التغلغل الغربي العميق بالمنطقة، ووجود «مصالح» أمريكية/غربية هائلة فيها. لذلك، يتوقع أن تكون هذه المنطقة إحدى بؤر الصراع البارد والساخن بين العملاقين الأمريكي والصيني. ويبدو أن اللعبة الصينية - الامريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالباً «صفرية». فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أمريكا، والعكس صحيح. ولكن، هناك احتمال أن يحصل بين الطرفين، الصيني والأمريكي، نوع من التفاهم.. بحيث يترك للصين المجال الاقتصادي فقط، ويبقى المجال السياسي والاستراتيجي أمريكياً. ولكن هذا الاحتمال ضئيل؛ بسبب صعوبة الفصل بين الاقتصادي والسياسي. وسنوجز أهم الوسائل المتبعة لتحقيق الأهداف الصينية، في مقالنا القادم.