لم يكن السلف بحاجة إلى جمهور يشاهدهم وهم يتعبدون، ولم يكن الإخلاص عندهم أمرًا يُناقش، بل كان فطرة في قلوبهم. كانوا يحرصون على أن تكون عباداتهم خفية، لا يعلم بها إلا الله، خوفًا من أن تتسلل إليها شائبة الرياء. واليوم، تغيّرت الأحوال، وأصبحت العبادات تُوثّق بالصوت والصورة، حتى وصل الأمر إلى نقل مناسك العمرة والاعتكاف والبكاء في الصلاة عبر البث المباشر، وكأن الخلوة مع الله لم تعد شأنًا خاصًا، بل هي حدث يستحق أن يُعرض أمام الجميع. لم يعد مستغربًا أن تجد من يخصص كاميرات لنقل صلاته في غرفته المطلة على الحرم، أو أن ترى من يبث يوميات اعتكافه في المسجد الحرام، وكأن الأمر لم يعد علاقة روحانية بين العبد وربه، بل مادة إعلامية تنتظر التفاعل والمشاهدات. ربما يكون الدافع والعذر حسن النية، كتشجيع الآخرين على العبادة، لكن هل يحتاج الإخلاص إلى جمهور؟ وهل يبقى للعمل أثره في الآخرة إذا كان الهدف منه رضا الناس لا رضا الله؟ كان السلف الصالح يدركون خطورة الرياء، لذلك أخفوا أعمالهم الصالحة قدر المستطاع. يروي الحسن البصري- رحمه الله- أن الرجل منهم كان يحفظ القرآن، ويصلي الليل، ويفقه الفقه، ولا يشعر به أحد. كانوا يناجون الله في همس، لا يريدون أن يُسمع لهم صوت، لأنهم يعلمون أن ما كان لله فهو باقٍ، وما كان للناس فهو زائل. واليوم، تغيرت المفاهيم، وصار بعض الناس ينفق المال ليبث عبادته، فيغدو الاعتكاف حدثًا عامًا، وتتحول الصلاة إلى مشهد يُعرض أمام آلاف المتابعين، وكأن التقرب إلى الله يحتاج إلى عدسة كاميرا توثّقه. الرياء قد يتسلل إلى القلب دون أن يشعر الإنسان، وهذا ما حذّر منه النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، فسئل عنه، فقال: «الرياء». إن كان المرء يعمل العمل ليُذكر ويُثنى عليه، فما جزاؤه إلا أن يُقال له يوم القيامة: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» فكيف نطمئن إلى إخلاص عبادتنا إذا كنا نقدمها للناس قبل أن نقدمها لله؟ قد يقول البعض: «أنا أبث عبادتي لتشجيع الناس»، «أنا أنقل صلاتي لإلهام الآخرين»، «أنا أوثق لحظاتي مع الله لنشر الخير»، لكن الحقيقة أن الإخلاص لا يحتاج إلى جمهور، ومن أراد أن يكون قدوة فليكن ذلك بفعله، لا بصوره وبثّه المباشر. الصحابة لم يكونوا بحاجة إلى تصوير صلاتهم ليكونوا قدوة، ولم يكن التابعون يوثّقون عباداتهم لينقلوها للناس، بل كانوا يعيشونها بصدق، بعيدًا عن أعين البشر، قريبًا من الله وحده. كان أحد السلف يصوم دون أن يدري عنه أحد، ويمسح شفتيه بالماء حتى يظن الناس أنه قد مفطر. أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، كان ينفق ماله سرًا، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. كانوا يعلمون أن الله يرى، وكان ذلك يكفيهم. فهل يكفينا أن يرانا الله، أم إننا نبحث عن أنظار الناس أيضًا؟ ما كان لله يبقى، وما كان للناس يذهب ويفنى. فلنسأل أنفسنا بصدق: هل ما نقوم به لله أم للناس؟ هل نبحث عن رضا الله أم عن أعجاب المتابعين؟ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له، وما كان لله يبقى، وما كان للناس يذهب هباءً، كما يذهب البث المباشر بعد أن ينتهي.