أسماء كثيرة تختزنها كتب التاريخ الحديث عن رجالات تركوا موطنهم في وسط الجزيرة العربية باتجاه بلاد الرافدين بحثا عن الرزق والحياة المستقرة الكريمة، أو هربا من القحط والحروب والأوبئة، فتمكنوا بجهدهم وعرقهم وكفاحهم وخصالهم الحميدة أن يؤسسوا لأنفسهم مكانة وسمعة اجتماعية مرموقة في ديار الغربة، ما جعلهم يشغلون مراكز حساسة، ويُعرفون في مجتمعاتهم الجديدة بصفات الجود والنخوة والشهامة والبذل والعطاء وتفريج الكروب ودعم الحركة العلمية والأدبية والثقافية. من هذه الأسماء رجل الأعمال «محمد بن سليمان العقيل» الذي يعد واحدا من أبرز الشخصيات التجارية النجدية في العراق ومن أكثرهم نجاحا وشهرة لجهة الارتباط بعلاقات تجارية مع كبار تجار الخليج والشركات الأجنبية العريقة في القرن العشرين. ومن حسن الحظ وجود مؤلف معزز بالوثائق والصور يتطرق بالتفصيل لحياته ونشأته وأصوله وعلاقاته ومناقبه وظروف هجرته من مسقط رأسه في بلدة «حرمة» بإقليم سدير في نجد. وهذا المؤلف، الذي سنستخدمه هنا كمصدر رئيسي لإلقاء الضوء على الرجل وصولاته وجولاته في العراق ودول الخليج، يحمل عنوان «محمد السليمان العقيل.. رجل الجود والشهامة 1888 1975» من تأليف المحامي الدكتور خالد بن عقيل بن سليمان العقيل (الطبعة الثانية/2019/الرياض). وعائلة العقيل يرجع نسبها إلى سليم من الحمد من آل أبو رباع من الحسني من الدغيّم من السلقا من العمارات من قبيلة عنزة من بني وائل من ربيعة من عدنان. ومن العقيل أسر: النملة والشويهي والسديس والفهدي والحضيف والحواس والفراج والقصير والعوهلي وغيرهم. وهؤلاء يتواجدون اليوم في حرمة والشقة وعيون الجواء وعنيزة والزبير والكويت. والده هو «سليمان محمد بن حمد بن محمد بن حمد العقيل» الذي ولد في بلدة حرمة عام 1280 للهجرة، وتركها وهو لم يتجاوز التاسعة من العمر برفقة والده ووالدته وعمه «عبدالله بن حمد العقيل» على ظهور الجمال باتجاه الزبير سعيا وراء الرزق والأمان والإستقرار. وبعد فترة من الإقامة في الزبير، وبعد أن توفي والده محمد في الزبير، قرر عمه عبدالله أن يعود إلى نجد، لكن سليمان رفض مفضلا البقاء في الزبير التي امتهن فيها مهنة البناء. ومع مرور الوقت تعلم هذه المهنة على أصولها وارتقى درجاتها حتى وصل إلى درجة «أستاذ»، ما جعل الكثيرين يعهدون إليه ببناء مساكنهم ومجالسهم. وفي هذا السياق ذُكر أن سليمان العقيل تميز بصوت رخيم شجي استخدمه في ترديد الأهازيج الشعبية أثناء عمله، على عادة البنائين، من أجل تشجيع وإثارة حماس عماله. توفي سليمان العقيل في الزبير في عام 1364 للهجرة، وكان قبل وفاته قد أدى فريضة الحج عن طريق البحر، وتزوج من «لولوة بنت فهد بن محمد بن عبدالله بن عثمان أبا حسين» سنة 1304 للهجرة، والأخيرة أنجبت له من البنين محمد (محور حديثنا) وعبدالعزيز (توفي في بغداد عام 1959) وعقيل (توفي في الرياض عام 1989) وأحمد (توفي في الزبير عام 1969) وإبراهيم (خريج حقوق بغداد عام 1939 وتوفي في الرياض عام 1999)، ومن البنات حصة (تزوجها محمد المشعل) وطيبة (تزوجها سليمان الفليح)، علما بأنه أنشأ أولاده وبناته على الفضيلة والتقوى ومكارم الأخلاق والتآخي والتآلف والسمع والطاعة والالتزام، ما جعلهم مضربا للأمثال في العراق في الترابط والتراحم والكرم وحب الخير، وكان لوالدتهم أيضا دور مهم في صقل شخصياتهم وتعليمهم، خصوصا وأنها كانت متعلمة وتمارس التدريس في بيتها احتسابا لوجه الله. وبالعودة إلى سيرة نجله الأكبر «محمد السليمان العقيل» فقد أبصر النور في محلة «المجصة»، أحد أحياء مدينة الزبير القديمة، في عام 1888م أي في زمن حكم مشيخة عبدالله الإبراهيم الراشد للزبير، ودرس القرآن وفقه العبادات والقراءة في الكتاب الملحق بمسجد الباطن في الزبير، متتلمذا على يد العالم الجليل الشيخ محمد بن عبدالله بن سليمان العوجان، ومزاملا بعض من صاروا لاحقا من المشايخ من أمثال: الشيخ ناصر بن إبراهيم الأحمد والشيخ محمد العسافي والشيخ عبدالمحسن بن إبراهيم البابطين. ومن الكتّاب التقليدي انتقل إلى «المدرسة الرشدية» في محلة البراحة، بُعيد تأسيسها من قبل الدولة العثمانية، حيث درس فيها علوم الدين واللغة العربية واللغة التركية وبعضا من علوم العصر الحديثة، وتذوق الشعر والأدب. تزوج محمد السليمان العقيل للمرة الأولى من حصة بنت محمد العيسى التي أنجبت له فاطمة، قبل أن يطلقها، ثم تزوج من طيبة بنت علي بن عبدالكريم المهيدب التي أنجبت له صفية وعائشة ومريم وسعاد وقاسم، وظلت على ذمته حتى وفاته. ويقال إنه تزوج أيضا من ابنة مشاري الدخيل وطلقها دون أن تنجب منه. بدأ الرجل مسيرته المهنية بالعمل الحر من خلال استلام إدارة محل لبيع الدقيق في الزبير تركه له فهد الراشد بسبب انتقاله إلى البصرة. وقتها حدث أن تأسست في البصرة مطاحن حديثة لطحن القمح بشكل جيد، فبادر إلى الاتصال بها واستيراد منتجاتها إلى الزبير التي كان طحن القمح فيها آنذاك يتم بشكل يدوي وفردي من خلال «الرحى»، الأمر الذي أثمر عن توسع تجارته وانطلاق اسمه التجاري. هذا التطور ولّد بداخله طموحات أكبر وشجعه على ترك محله في الزبير لإخوانه، كي ينتقل هو إلى البصرة، وتحديدا إلى قلبها التجاري النابض المتمثل في العشار، حيث أسس فيها لنفسه تجارة مستقلة بعنوان برقي وهاتفي ثابت في عام 1926م، وسرعان ما لحق به شقيقه عبدالعزيز وعقيل للعمل معه. وهكذا راحت تجارته تكبر واسمه يلمع في الوسط التجاري في البصرة والعشار، ولم تأت سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين إلا والرجل يتحول إلى واحد من كبار تجار الشعير، وأكثرهم امتلاكا لمستودعات تخزين الحبوب في الناحية الجنوبية من نهر الخندق، وألمعهم سمعة لجهة حسن المعاملة والأمانة والالتزام. ومن علامات بروزه التجاري أنه لم يكتف بمحله الرئيسي في العشار ومستودعات الحبوب في جنوب الخندق، وإنما أضاف إليهما مكتبا تجاريا من دورين لاستيراد المنتجات الغذائية مثل السكر والشاي والقهوة، ثم معملا لجرش وطحن الحبوب في بغداد بالاشتراك مع سعود القضيب. علاوة على ما سبق قام ببناء «سوق العقيل» في كل من الزبير والبصرة على هيئة الأسواق المسقوفة ذات الدكاكين المتفرقة، جاعلا منها مكانا لتجمع الحرفيين وعلى رأسهم خياطو البشوت وناسجو المفروشات والسجاد. الدخول المتأتية من أنشطته التجارية المذكورة حولته شيئا فشيئا إلى واحد من كبار ملاك بساتين النخيل في البصرة، بدليل ورود اسمه واسم عائلة العقيل في العديد من المؤلفات والموسوعات والأدلة التجارية العراقية الرسمية منذ العهد الملكي، جنبا إلى جنب مع أسماء كبار ملاك الأراضي والنخيل ومنتجي ومصدري التمور في الزبير والبصرة مثل الفليج والبسام والذكير والراشد والزهير. كما أن الثراء الذي حققه سمح له بتملك عدد من القصور منها قصر في القريطية اشتراه من آل الإبراهيم في الثلاثينات ثم باعه إلى الحاج عبدالعزيز البسام فعرف باسم الأخير، ومنها قصر ثان بناه في القريطية في أواخر الثلاثينات وتميز باتساعه وتقسيماته الجميلة وشهد استضافة شخصيات سياسية من أبرزها الملك فيصل الثاني والوصي على عرش العراق الأمير عبدالإله بن علي وحاكم الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح. وبعد أن باع قصره الثاني بنى إلى الشمال منه قصرا ثالثا في أواخر أيام حياته. أما قصره الرابع المطل على شط العرب فقد كان في الأساس من أملاك عائلة الزهير واشتراه من أحد تجار البصرة لاستخدامه في فصل الصيف. وأما قصره الخامس فقد بناه وفق الطراز الحديث على نهر الشريفات في منطقة شط العرب. وهكذا أصبح للعقيل مكانة مؤثرة في الاقتصاد العراقي، خصوصا مع تمدد نشاطه التجاري (استيرادا وتصديرا) إلى السعودية وإمارات الخليج العربي واليمن وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية والأوروبية، وتعامله مع شركات وأسماء تجارية معروفة في هذه الدول مثل التجار محمد العبدالله المتروك وعبدالمحسن الناصر الخرافي وعبدالكريم أبل وعبدالله العبداللطيف العثمان في الكويت، والتاجر حمد العلي القاضي في بومبي، وآل العجاجي في البحرين، وآل الغنيم في الأحساء، وعبداللطيف الفوزان في الخبر، علاوة على تعاملاته مع «الشركة الأفريقية الشرقية» و«شركة أندروير» البريطانية التي احتكرت طويلا شراء المحصول الزراعي العراقي. ولعل أسطع دليل على مكانته وتأثيره ونفوذه التجاري أنه كان منذ ثلاثينات القرن العشرين تقريبا وحتى أواخر الخمسينات واحدا من أبرز أعضاء غرفة تجارة البصرة، التي تأسست في عام 1926م وكان معظم أعضائها لسنوات طويلة تجارا من ذوي الأصول النجدية، بل كان أيضا في فترة من الفترات ضمن أعضاء مجلس إدارة الغرفة أو رئيسا له. وبهذه الصفة مثّل العراق في العديد من المؤتمرات والاجتماعات الاقتصادية. فقد حضر كممثل لغرفة تجارة البصرةوجنوبالعراق المؤتمر الاقتصادي الثاني لغرف التجارة العراقية الذي انعقد في عام 1941 لدراسة ارتفاع الأسعار وشح المواد المستوردة بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، ثم مثل غرفة تجارة البصرة مجددا في مؤتمرات غرف التجارة العراقية الثالث والرابع والخامس والسادس المنعقدة في الموصل (عام 1949) وفي البصرة (عام 1950) وفي بغداد (عام 1952) وفي بغداد مرة أخرى (عام 1956)، على التوالي. وتمكن من خلال حضور هذه المؤتمرات من توثيق علاقاته مع رئيس الحكومة العراقية آنذاك نوري باشا السعيد والوصي على العرش الأمير عبدالإله، وتبادل الآراء معهما حول بعض القوانين التجارية الجديدة مثل قانون الضريبة والدخل لعام 1956 وحول معالجة الأوضاع الاقتصادية التي واجهت المملكة العراقية في الخمسينات. وعلى الصعيد الخارجي شارك العقيل في المؤتمر الإسلامي الاقتصادي الثاني الذي انعقد في طهران سنة 1950، ثم في مؤتمر غرف التجارة والصناعة والزراعة العربية الأول الذي انعقد في الإسكندرية سنة 1951 بحضور وفود من مصر وسوريا ولبنان والعراق والسعودية واليمن، ثم في مؤتمر الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية السابع الذي انعقد في القاهرة سنة 1957. إلى ما سبق، وبوصفه عضوا مؤسسا ومساهما في «شركة تجارة التمور العراقية» (شركة مساهمة تأسست في عام 1950 وتمّ تأميمها بالكامل وتحويل ملكيتها إلى جمعية التمور العامة في العهد الجمهوري سنة 1960) شارك العقيل في المؤتمر الإسلامي الاقتصادي الدولي المنعقد في مدينة كراتشي الباكستانية سنة 1949. والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن العقيل ساهم في تأسيس غرفة الزراعة في البصرة سنة 1940، بل شغل منصب نائب رئيسها، كما ساهم من خلال هذا الكيان في تأسيس جمعية التمور العراقية. إلى جانب دوره الاقتصادي والتجاري اضطلع العقيل بأدوار سياسية واجتماعية وثقافية. يشهد على ذلك دوره البارز في تأسيس جمعية النجاة ومدرستها ومكتبتها الأهلية وجمعية الإصلاح الاجتماعي ومستشفى الأمومة والولادة بالزبير، وعضويته في مجلس إدارة البصرة سنة 1949، وعضويته في المجلس البلدي لبلدة الزبير، وبنائه وترميمه للمساجد، وحفره للآبار، وتسويره للمقابر ومصلى العيد، وتبرعه للأنشطة الرياضية، واختياره ضمن الشخصيات البصراوية الثلاث (الشيخ صالح باش أعيان والحاج أحمد الذكير ومحمد سليمان العقيل) التي فاوضت الإنجليز للحيلولة دون انفلات الأوضاع الأمنية في لواء البصرة في أعقاب الحركة الذي قادها رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، ودعمه للحركة الجهادية في فلسطين وحركة الاستقلال في الجزائر من خلال التنسيق وجمع التبرعات مع مفتي فلسطين محمد أمين الحسيني والوزير المصري محمد علي علوبة والعلامة الجزائري البشير الإبراهيمي. إلى ذلك لعب الرجل دورا حكيما في تجنيب الزبير الخراب والدمار والانفلات وسفك الدماء الذي كانت تنتظره على غرار مدينة الموصل على أيدي الجماعات الشيوعية والفوضوية بعد انقلاب الجيش على النظام الملكي سنة 1958، حيث ارتأى ببعد نظره وحنكته أن يُصار إلى التعامل مع هذه الجماعات باستيعابها وإظهار الكرم لها بدلا من مواجهتها واستفزازها. في الكتاب الموضوع عنه نجد صفحات طويلة تتحدث عن خصاله وسجاياه، التي شهد بها كل من عاصره أو تعامل معه، ومنها: تدينه، وبره بوالديه، وتواصله مع أقاربه في العراق والسعودية، وسداد رأيه، وفصاحة لسانه، وكرمه الفياض، وتواضعه الجم، ونصرته للفقراء والمستضعفين، ووفائه بالعهود، وحبه للتنظيم في حياته وعمله، وعشقه للعلم والأدب والشعرين الفصيح والنبطي، وحرصه على القراءة ومتابعة الأوضاع العامة من خلال الصحف والمجلات والدوريات الصادرة في العراق ومصر والشام، واهتمامه بخدمة موطن آبائه وأجداده في نجد (بنى مثلا مدرسة بتكلفة أربعين ألف ريال على أرض اشتراها خصيصا لذلك في بلدة «حرمة»، مسقط رأس والده، وقد تحولت المدرسة بعد انتقال طلبتها إلى مدارس الحكومة إلى مقر للنادي الفيصلي فإلى متحف)، وأيضا خدمة موطن معارفه وأصدقائه (كان مثلا من أبرز المساهمين في تأسيس «شركة كهرباء الكويت الأهلية» التي أدخلت الطاقة الكهربائية إلى الكويت عام 1933 في عهد الشيخ أحمد الجابر الصباح). ارتبط العقيل، صاحب الهيبة والوقار والنفوذ الاقتصادي والوجاهة الاجتماعية في جنوبالعراق، بعلاقات وطيدة مع العديد من القادة والزعماء والمسؤولين داخل العراق وخارجها. ففي العهد الملكي توثقت علاقته، كما أسلفنا، مع الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله ونوري باشا السعيد والعديد من وزرائهم. وفي العهد الجمهوري الأول ارتبط بعلاقات تجارية مع حامد قاسم شقيق الزعيم عبدالكريم قاسم. وفي عهد العارفين (المشير عبدالسلام عارف والفريق عبدالرحمن عارف) كانت بينهما وبين العقيل علاقات احترام وثقة متبادلة. إلى ذلك كان الرجل ضمن وجهاء الزبير والبصرة ممن احتفوا بالمغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز والتقوا به خلال زيارة جلالته الأولى للعراق حينما كان وليا للعهد عام 1936 وخلال زيارته الثانية كملك سنة 1957. كما ارتبط العقيل بعلاقات طيبة وزيارات متبادلة مع الشيخ عبدالله السالم الصباح والشيخ سعد العبدالله الصباح وأبناء الشيخ عذبي الصباح، وكانت له صلات أيضا بحكام البحرين وشيوخ إمارات الساحل المتصالح قبل توحيدها. ولعل أقوى دليل على ما كان يتمتع به من مكانة رفيعة لدى قادة البلاد الأجنبية هو تلقيه دعوة لحضور حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية في يونيو سنة 1953. توفي محمد السليمان العقيل بمدينة الزبير في عام 1975 عن عمر ناهز 87 عاما وشيعه أهالي المدينة بجنازة مهيبة، وصلي عليه في مسجد الدروازة، ثم ووري الثرى بمقبرة التابعي الجليل الحسن البصري. ونختتم ببيتين من الشعر كتبهما فيه الشاعر عبداللطيف الدليشي: محمد الشهم الذي يُنسب اسمه إلى المصطفى، في جوده الفخر والبر عقيل كأن الجود معتقل به كما في ثقال السحب يُعتقل القطر