إذا كان أول طبيب سعودي من شرق المملكة هو الدكتور يوسف بن يعقوب الهاجري الذي اختاره المغفور له الملك سعود وزيرا للصحة في الحكومة التي شكلها جلالته في عام 1962، فإن أول طبيب سعودي من نجد هو الدكتور حمد بن عبدالله بن حمد بن محمد بن عبدالعزيز البسام (أبو نجيب) الذي لم يبرز في مجال الطب والجراحة فحسب، إنما برز أيضا في ميادين التجارة والأدب والشعر. ينتمي أبو نجيب، كما هو واضح من لقبه، إلى عائلة البسام المعروفة التي يتوزع أفرادها في نجد والحجاز والعراقوالبحرين والكويت وقطر، بل التي وصل الكثيرون منهم إلى الهند طلبا للرزق أو العلم أو كليهما معا. والمعروف أن آل البسام يتحدرون من مدينة عنيزة في إقليم القصيم بنجد. وطبقا لما ورد في كتاب (رحلة عمر) الذي أعده أبناء الدكتور أبونجيب عن والدهم الراحل، والذي سنستند إليه كمرجع رئيسي في هذا السرد مع بعض الإضافات من هنا أو هناك، فإن عائلة الدكتور حمد كانت متوسطة الحال وتعيش بسلام وطمأنينة في مدينة عنيزة إلى أن فجعت بمقتل جدها الأكبر محمد، وهو في الأربعينات من عمره فيما كان أكبر أبنائه حمد (جد أبونجيب) في السادسة عشرة من عمره. ولأن الراحل لم يترك مالا لأسرته كي تعيش عليه، فقد اجتمع كبار آل البسام في عنيزة وجمعوا مالا لدعم الأسرة المنكوبة، لكن حمد رفض مساعدتهم بحجة أنه لا يريد أن يعتاد على صدقات الآخرين. وتحت ضغط الحاجة عاد وقبل المساعدة بشرط أن تكون قرضا يسدده بعد فترة. بعد مدة قصيرة فاجأ حمد والدته (رقية عثمان الخويطر) بقراره السفر إلى الهند طلبا للرزق، واعدا إياها ببذل قصارى جهده في تلك الديار البعيدة من أجل أن يجعل من بيت البسام أفضل بيت في عنيزة. وبالفعل سافر حمد إلى الهند في عام 1864 عبر البحرين، فوطأت قدماه أرض (بمبي) وهو في سن السابعة عشرة، والتحق هناك بوظيفة كاتب لدى أسرة الغانم التجارية التي كانت تقيم وتعمل آنذاك في الهند. وهكذا دخل حمد التاريخ كأول رجل من آل البسام يسافر إلى الهند ويعمل فيها ليل نهار، متقشفا في مصاريفه، جامعا كل روبية يحصل عليها، وصابرا على آلام فراق أهله في وطنه الأم. وبعد ثلاثة أعوام من العمل المضني، تمكن حمد من ادخار مبلغ كاف لممارسة تجارته المستقلة عن آل الغانم في التوابل والحبوب. وفي العام الرابع من اغترابه، عاد إلى نجد لزيارة والدته وإخوته، حاملا لهم الهدايا وكان يحمل معه أيضا مالا ليسدد به القروض التي أخذها من أقاربه يوم وفاة والده. في عنيزة، جمع حمد أخوته الثلاثة الصغار عبدالعزيز وعبدالله وعبدالرحمن وراح يحثهم على اقتفاء دربه في السفر والتجارة والمغامرة من أجل حياة أفضل. وحينما شعر باقتناع إخوته، اصطحب حمد أخاه عبدالعزيز إلى العراق ومن ثم إلى الهند ليعلمه أصول التجارة. وبعد مدة كرر الشيء نفسه مع أخيه عبدالله. وعلى حين صار عبدالعزيز تاجرا في الهند مثل أخيه حمد، راح أخوه عبدالله يركز على الزراعة والأدب والتاريخ، بدليل أنه عاد إلى عنيزة بعد فترة ليؤسس بما جمعه في الهند من ثروة مزرعة كبيرة عرفت باسم (المهيرية)، وهي مزرعة صارت سكنا له ولإخوته، وكان يستضيف فيها كبار الشخصيات من علماء وأدباء وأمراء ورحالة غربيين، الأمر الذى نما لديه ملكة التأريخ فصار مؤرخا موسوعيا للسنوات التي عاشها وما قبلها بل صار «من أهم مؤرخي نجد الخمسة للقرنين الهجريين الثاني عشر والثالث عشر». وقبل وفاته في عام 1927 عن 69 عاما في عنيزة كان الرجل قد أنجز كتابه الموسوم ب(تحفة المشتاق في تاريخ نجد والحجاز والعراق). جملة القول أن حمد بن محمد البسام (جد أبونجيب) نجح في تحويل نكبة أسرته إلى ثراء ورخاء، بل فتح أبواب الهند لأخوته ومن بعدهم أبناء عمومته فأسسوا البيوتات التجارية هناك وحققوا سمعة طيبة وسط المجتمع التجاري الهندي وفي أوساط تجار الخليج والجزيرة المقيمين في الهند. كما نجح حمد في إقناع أخيه عبدالعزيز بإدارة تجارة العائلة في البصرة التي كانت آنذاك مدينة خصبة مليئة بالخيرات والمساحات الشاسعة من أشجار النخيل المدرة لأجود أصناف التمور، فأبلى عبدالعزيز بلاء حسنا في تجارة التمور، إضافة إلى تجارة الحبوب القادمة من وسط وشمال العراق إلى ميناء البصرة، وهو ما جعل لأسرة البسام نفوذا ومركزا تجاريا مرموقا في العراق ونجد والحجاز والبحرين وبلاد الشام وغيرها، واستدعى المغفور له الملك عبدالعزيز آل البسام إلى الرياض وأكرم وفادتهم، وطبقا لما ورد في الصفحة 28 و29 من كتاب (رحلة عمر)، فإن الملك عبدالعزيز سمح لآل البسام بالعودة إلى القصيم، لكن قسما من آل البسام آثر أن يذهب إلى قطر قبل عودته إلى القصيم، وقسما آخر سافر إلى البحرين ومن الأخيرة إلى الهند للتجارة. وكان من بين القسم الأخير حمد الذي فضل العودة إلى مقر تجارته في بمبي قبل أن يقرر العودة نهائيا إلى عنيزة عن طريق البصرة، لكنه توفي في الأخيرة في عام 1906 عن 59 عاما ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير، تاركا خلفه تاريخا ناصعا من الكفاح والسيرة العطرة وخمسة أبناء أحدهم عبدالله بن حمد البسام (والد أبونجيب). ما سبق سرده كان عن جد الشخصية محور حديثنا، فماذا عن والده عبدالله بن حمد البسام؟ بعد وفاة والده حمد في البصرة كما ذكرنا، سافر عبدالله إلى بمبي في عام 1907 ليخلف أباه في إدارة تجارة العائلة، تاركا خلفه في عنيزة زوجته الصبورة شديدة المراس والذكاء نورة البسام، وكذلك ابنته حصة (والدة معالي الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل وزير العمل والشؤون الاجتماعية السعودي الأسبق). في الهند اكتسب عبدالله سمعة طيبة في الوسط التجاري مستمدة من سمعة والده، وكان أثناء تلك الفترة يسافر ما بين بمبي وعنيزة مرورا بالبحرين تارة وبالبصرة تارة أخرى، فأنجب ابنه حمد في عام 1910، ثم أنجب ابنته مضاوي (زوجة سليمان بن إبراهيم بن محمد البسام) في عام 1912. عاش عبدالله في الهند حتى تاريخ وفاته في بمبي في عام 1943، ليدفن هناك، وليخلفه في إدارة تجارة الأسرة أخواه الأصغر سنا سليمان وعبدالرحمن. وكان عبدالله قبل وفاته قد بنى في عنيزة بيتا من الطين مكونا من ثلاثة أدوار، سكنت فيه زوجته نورة التي عاشت طويلا حتى تجاوز عمرها المائة بسنتين، كما سكنت فيه ابنتاه حصة ومضاوي قبل زواجهما. أما ابنه حمد، الذي تعلم القراءة والكتابة والقرآن وبرع في اللغة العربية وأتقن الخط العربي الجميل، فقد صار أديبا وشاعرا متميزا، خصوصا أنه عاش في مزرعة المهيرية التي كانت تضم مكتبة عامرة بالمخطوطات والكتب في الشعر والأدب والتاريخ، ناهيك عن اكتسابه الكثير من المعارف من والده وعميه سليمان وعبدالرحمن ومن بيئة عنيزة المنفتحة آنذاك بدليل تكالب الرحالة الأجانب على زيارتها من أمثال: البريطاني وليام بلغريف، والإيطالي كارلو غورماني، والألماني إدوارد نولد، والدنماركي باركلي رونكير، والبريطاني هاري سانت جون فيلبي، وطبيب الإرسالية الأمريكية في البحرين الدكتور لويس باول ديم، إضافة إلى الرحالة والأديب الأمريكي/ اللبناني أمين فارس الريحاني الذي وصف عنيزة ب(باريس نجد). وبعد أن تيقن عبدالله من تمكن ولده حمد من علوم الأدب واللغة العربية والدين والتاريخ، شجعه على الالتحاق به في الهند كي يكتسب المعارف الحديثة ويتعرف على مظاهر الحياة في العالم المتمدن. وهكذا سافر حمد إلى الهند لأول مرة بصحبة عمه الأصغر عبدالرحمن وهو في سن الخامسة عشرة في رحلة شاقة تطلبت منهما السفر أولا في قافلة من الجمال إلى الزبير على بعد 800 كلم من عنيزة. وفي الزبير استراحا لعدة أيام في منزل من منازل أسرة البسام، ثم انتقلا إلى البصرة التي أعجب حمد بخضرتها وبساتينها ومياه أنهارها وأسواقها ومباهجها الكثيرة. وبعد شهر استقل مع عمه سفينة بخارية تابعة لشركة الهند البريطانية للملاحة من ميناء العشار بالبصرة باتجاه كراتشي ثم بمبي مرورا بعدد من الموانئ الخليجية كالمنامة ومسقط في رحلة استغرقت نحو أسبوعين. وصل حمد في عام 1935 إلى بمبي، درة التاج البريطاني وميناء الهند الأشهر وملتقى تجار وعائلات الخليج المهاجرة ومصدر قوت منطقة الخليج والجزيرة العربية التي ظلت عقودا طويلة تعتمد في حياتها على ما يأتي من بمبي من أرز وسكر وشاي وتوابل وأقمشة وأثاث، محققا بذلك أمنية راودته طويلا. وبطبيعة الحال كان في استقباله في بمبي والده عبدالله الذي كان يقطن وقتذاك في منزل خلف شارع تشاكلا، الواقع بدوره خلف سوق الأثاث. ولم تمض أيام إلا ووالده يحضر له مدرسا لتعليمه الإنجليزية استعدادا لإلحاقه بالمدارس الرسمية الهندية. وخلال الأعوام الأربعين التالية التي قضاها أبو نجيب في الهند، تمكن من امتلاك ناصية ثلاث لغات أجنبية وبعض اللغات المحلية، وأنهى مراحل التعليم ما قبل الجامعي في مدرسة (سانت ماري)، وتخرج منها متفوقا على زملائه رغم صعوبة مقررات اللغة والعلوم والرياضيات. ولما لاحظ والده عليه علامات الذكاء والنبوغ والجدية في التحصيل العلمي أدخله واحدة من أشهر وأعرق جامعات بمبي وهي كلية (سانت زافيير)، حيث درس المرحلة التمهيدية المؤهلة للالتحاق بكلية الطب. وخلال هذه الفترة من حياته لم ينقطع حمد عن زيارة أهله وأصدقائه في عنيزة، إذ كان يزورهم أثناء الإجازات الصيفية بالانتقال من بمبي إلى البحرين بواسطة السفن التي كانت تتطور بسرعة لجهة السرعة والخدمات، ومن البحرين إلى الخبر بواسطة المراكب الشراعية، ومن الخبر برا إلى عنيزة. وفي إحدى زياراته الصيفية هذه تزوج حمد من إحدى قريباته وهي (فاطمة بنت فهد بن عبدالله البسام) التي أتى بها إلى بمبي بعد أربع سنوات من الاقتران بها لتكون سندا له في مشواره التالي الذي تمثل في الالتحاق بكلية الملك إدوارد الطبية التابعة لجامعة بمبي King Edwards Medical College والملحقة بمستشفى الملك إدوارد السابع التذكاري، علما بأنه تم تغيير اسم هذه الكلية الراقية بعد استقلال الهند إلى Gordands Sunderdas Medical College. تخرج أبونجيب من الكلية المذكورة في عام 1943 حينما كانت الحرب العالمية الثانية ومآسيها تلفظ أنفاسها، الأمر الذي ضمن له التدريب والعمل في المستشفيات الهندية في بيئة مريحة غير مشحونة، كما ضمن له الحصول على دورات طبية مكثفة في جميع التخصصات الطبية، فكان يعمل ويتدرب في تلك المستشفيات صباحا، ويخصص الفترة المسائية لمزاولة تجارة والده الذي رحل في عام تخرجه. واستمر يمارس نشاطه المزدوج الذي أكسبه خبرة كبيرة في الطب والجراحة والتجارة معا. وكان بالتزامن يقتنص بعض الوقت لينمي عشقه القديم للأدب والشعر والتعرف على روائع ما أصدرته دور النشر الغربية من مؤلفات في الشعر والرواية والمسرح، خصوصا مع توفرها في المكتبات العامة والتجارية في بمبي. كما كان ناشطا وحاضرا في كل المناسبات والفعاليات التي كانت تقيمها المدارس والجمعيات العربية في بمبي، إضافة إلى تواجده دوما خلال حفلات الاحتفاء بضيوف الهند من الزعماء العرب. وحينما شعر الرجل بعجزه عن التوفيق ما بين مسؤوليات ممارسة الطب ومزاولة تجارة العائلة، قرر التفرغ للأخيرة، لكن دون أن يقطع صلته كليا بالمجال الذي أفنى شبابه فيه، بدليل أنه كان في الفترات التي يعود فيها إلى مسقط رأسه في القصيم يستقبل المرضى ويعالجهم، ومن لم يكن قادرا على المجيء إليه لشيخوخته وعجزه كان هو الذي يذهب إليه معالجا. كما كان يقوم في تلك الفترات بزيارة المدارس لإلقاء المحاضرات الصحية التوعوية على الطلبة، حاثا إياهم على تعلم اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة والتخصص في المجالات العلمية. * أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين