الدستور العراقي الذي يسمح بتكوين وحدات فيديرالية غير محددة الحجم يطرح يومياً، في النقاش كما في العنف الأعمى، مستقبل الوطنية العراقية ومفهوم العراق من النواحي الثقافية والجغرافية والقانونية. وإذ لا يمكن ضبط الفيديرالية ومنعها من الجنوح الى الانفصال، يحيل الوضع اليوم الى أيام التكوين الأولى لدولة العراق الحديثة حين قامت في البصرة حركة انفصالية، بمعنى الامتناع عن الاندراج في الدولة الوليدة والدعوة الى دولة بصراوية خليجية مقطوعة أو قليلة الصلة ببغداد. ريدر فسّر باحث هولندي قدم أطروحة دكتوراه في جامعة اكسفورد عنوانها"البصرة - الدولة الخليجية الفاشلة / الانفصالية والوطنية في جنوبالعراق"، ونقلت الاطروحة الى اللغة العربية وهي في سبيلها الى النشر الشهر المقبل عن دار الجمل في ألمانيا. في ما يأتي حلقة ثانية أخيرة من أحد فصول الكتاب / الأطروحة تبيّن موقعي عريضة المطالبة بدولة البصرة وموقعي عريضة أخرى تطالب بعراق موحد. ومن خلال قراءة أحوال الموقعين يحلّل الكاتب الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للطرفين، وصولاً الى فشل قيام دولة بصرية. هناك شخصيتان كررتا التقدم للمسؤولين البريطانيين بمطالب الانفصال، واعتبرهما الانتداب المحركين الأساسيين للمخطط: أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل. يشترك الاثنان في خلفياتهما على نحو مثير. فقد ولدا في الزبير لأبوين مهاجرين من نجد، وكانا ينتميان إلى العائلات السنية التي تدبرت أن تجعل من نفسها ملاكاً وتجاراً. تعامل أبواهما بذكاء مع العثمانيين، غير أن الابنين أقاما علاقات مع أكثر من مركز قوة في بواكير القرن العشرين. وعند نهاية الحقبة العثمانية، حين تمكن الرجلان من تأكيد ذاتيهما كمالكين لأراض زراعية في أرياف البصرة، انضما الى الحركة الإصلاحية التي يقودها السيد طالب. ولم يشرعا بالتعامل مع بغداد إلا بعد الاحتلال البريطاني، وبحرص شديد، إذ يروى أن الصانع الذي زار العاصمة الجديدة لأول مرة في حياته عام 1920 لم يكن راضياً عن الأحوال في بغداد ولم تكن له سوى مساهمات قليلة كوزير بلا وزارة في الحكومة الموقتة، أما المنديل فلم يمارس فعلياً منصبه كوزير للتجارة، بل ذهب بدلاً من ذلك في زيارة إلى نجد في شتاء 1920- 1921. وعلى المستوى المحلي، أحرزا نجاحاً أكبر في التعامل مع الوقائع السياسية الجديدة، فعين كوكس الصانع حاكماً على البصرة في أوائل عام 1921. انضم إلى الصانع والمنديل في جهودهما وفد أكبر اجتمع معهما لتقديم العريضة الانفصالية، وكانت كتلة الوفد متنوعة في تركيبتها العرقية والدينية، ولعل الغرض منها كان إظهار الإجماع المحلي الواسع حول مطالب البصرة. مع ذلك كان هناك موفدون آخرون يشتركون في الخلفية الاحتلالية، إن لم نقل العرقية والدينية، للتاجرين المدنيين اللذين تزعما المشروع. فالآغا جعفر بن عبد النبي، وهو من عائلة شيعية من كازرون في فارس استقرت في البصرة قبل أجيال، كان عثمانياً مطبوعاً على النجاح في الملاحة النهرية، والتجارة وأعمال تطوير الأراضي. ويعقوب نوح، وهو من عائلة تجار يهودية لها روابط بكل من الهندوبريطانيا ومناطق أعلى النهر، استثمر عائدات العمل في العقارات وخدم كممثل لطائفته في المجالس المحلية في أواخر الحقبة العثمانية. ويوسف عبدالأحد، وهو كاثوليكي شامي من الموصل، جاء إلى البصرة ككاتب كنسي، وسلك طريقه إلى القمة بالانخراط في تجارة التمور وبيع الأراضي، وأقام روابط مع كل من العثمانيين من طريق تمثيل طائفته في مجلس الحكم والفرنسيين بالمحافظة على روابط حميمة مع البعثة الكرملية في البصرة والاستفادة من وضعه كشخص يحظى بالحماية الفرنسية. وهناك عضوان آخران في الوفد الانفصالي يتميزان بخلفيات مختلفة. فعبدالكريم السعدون، وهو من العائلة السنية الحاكمة في حلف المنتفك العشائري الكبير الممتد على طول الفرات وصولاً الى شمال حزام النخيل، نشأ في قسم من قبيلته محافظاً على تراث التعاون مع الدولة. تلقى تعليماً عثمانياً في إسطنبول وخدم في النظام العثماني السابق حتى فصله الأتراك الشباب وأجبروه على الانضمام إلى قوات السيد طالب في البصرة. ولم يكن سيد عبد علي بن فاخر من سكان البصرة أيضاً، فعلى رغم أنه كان تاجراً مثل سائر مقدمي العريضة، فإنه كان عربياً شيعياً من أرياف القرنة، على الأطراف الشمالية لسنجق البصرة القديم. معارضو الانفصال ولم يتم تحديد هوية العريضة الأصلية التي تحمل 1500 توقيع ضد الانفصال في الأرشيف العراقي أيضاً، غير أن محتوياتها معروفة من ترجمة بريطانية تنطوي على بعض الألفاظ الأساسية من الأصل العربي. وتم تأطير هذا الالتماس في الأصل كنقيض مقابل للوثقية الانفصالية، يرتبط بها ارتباطاً صريحاً. وبدلاً من التركيز على الموقع الاقتصادي للمدينة، كما فعل الانفصاليون، يركز رافعو العريضة على انضمام البصرة تاريخياً"منذ أزمنة الكلدانيين، ومروراً بأزمنة الفرس، والعرب، والترك، والبريطانيين"إلى"العراق العربي الذي يمتد من الفاو حتى شمال الموصل". ولن تتحقق"نهضة"هذه الأراضي إلا إذا تمت المحافظة على وحدتها الكاملة، ومن شأن"صيغة"خاصة لپ"مقاطعة"البصرة أن تدمر هذا الاحتمال. لم ترد أسماء الوفد المتكون من إثني عشر رجلاً قدموا العريضة رسمياً في التقارير البريطانية، في حين أُبرزت مساعي محامٍ بغدادي استقر في البصرة منذ السنوات الأخيرة من الحكم العثماني، وهو مزاحم الباججي، في تحليلات القوى ضد الانفصال. غير أن المصادر العراقية تحدد هوية أفراد ذوي ارتباطات محلية قوية تقترن بجهد معارضة الانفصال. وقد ربطت صحف عدة عام 1922 العرائض المضادة للانفصاليين بشخصين بصريين، بينما أضافت النبذة التي قدمها سليمان فيضي أسماء أربعة رجال آخرين من الأهالي. كان أكثر المدافعين عن الوحدة مع بغداد محمد أمين علي بن عبدالله باش أعيان. كانت عائلته السنية تتمتع بوضع مرفه في القرن التاسع عشر حين كانت تمتلك أراضي شاسعة، غير أن كثيراً من أفراد عائلة باش أعيان صاروا يجمعون بين العمل مع الحكومة والنشاط التجاري، بعد تدهور وضعهم المادي في أواخر العهد العثماني. اعتمد محمد أمين على التراث الثري لعائلة حررت المخطوطات عن تاريخ البصرة والرحلات التي ترعاها الحكومة إلى منطقة الحجاز، فميز نفسه باعتباره ناشر صحف في حقبة الأتراك الشباب، وكان واحداً من قلة من البصريين المنحدرين من عائلة ملاك الأراضي ممن بقي عضواً في جمعية الاتحاد والترقي بعد عام 1911، بدلاً من الانضمام إلى حركة الإصلاح الآخذة في الاتساع. وخلال الحرب نُفي إلى الكويت بشبهة تبني الآراء المؤيدة للعثمانيين ولم يعد الى البصرة حتى نهاية العقد. تقف خلفية شخصية أخرى من كبار معارضي الانفصال، وهو عبدالكاظم بن حجي خلف الشمخاني، على طرف نقيض للأولى. فهو شيعي من عشيرة القطارنة المقيمة على جانبي النهر شمال البصرة، بدأ عمله كرئيس للحمالين في الميناء، وشق طريقه حتى صار ممثلاً محلياً لشركة النقل البحري البريطانية، وفي بواكير العشرينات صار هو نفسه تاجراً ومالك أراضٍ. بدأ يعلن عن نفسه كمحسن كبير، وأظهر اهتماماً مبكراً بالسياسة، وخلال ثورة العشرين كان من البصريين القلة الذين سافروا إلى بغداد للالتحاق بالتهييج ضد البريطانيين. يمتاز المعارضون الأربعة المعروفون الآخرون بشبه في وضعهم الاجتماعي مع باش أعيان أكثر من الشبه مع الشمخاني. فقد درس عمر فوزي، وهو من عائلة سنية من أفندية كركوك، في المدارس العثمانية في بغداد وعمل موظفاً حكومياً في الحسا قبل أن يمارس المحاماة والصحافة في البصرة في فترة حكم الأتراك الشباب، وأخيراً انضم إلى السيد طالب. وكذلك عمل أحمد حمدي بن ملا حسين، الذي ينتمي إلى عائلة من الشيوخ السنّة وتعلم في مدارس البصرة والحجاز، كصحافي ومعلم قبل الحرب. ودرس عبدالعزيز المطير، وهو من عائلة سنية من أصل نجدي، في مدارس القانون العثماني الجديد في قونيا وعين بالتالي مساعد مدعٍ عام في النجف والعمارة خلال السنوات الأخيرة من الحكم العثماني. وأخيراً درس محمد زكي، وهو من عائلة سنية من أصول متواضعة من قرية جنوبالبصرة، القانون في بغداد، وعمل في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد أن جُرِحَ قضى سنوات في العاصمة العثمانية قبل أن يعود إلى البصرة ليعمل كمحامٍ. الدوافع والنيات لا بد من أن تسأل أية مناقشة للمضمون المحلي للحركة الانفصالية ما إذا كانت لها استمرارية مع حركة السيد طالب في فترة ما قبل الحرب، ربما مصحوبة بالبلاغة المضادة للأجانب ومطالب اللامركزية التي حل محلها الآن الخطاب الأكثر تماشياً مع الزمن في تأييد البريطانيين. وقد لمّحت مراجعات للحركة الانفصالية نشرت في الصحف البغدادية عام 1922 إلى مثل هذا الارتباط بالتحديد، ذاكرة فيلبي ومحميه السيد طالب بالاسم. وقد لا يتوافر الدليل على رابطة لفيلبي بها، غير أن هناك آثاراً مثيرة للاهتمام تدل على علاقة خاصة بين طالب وزعيمي الحركة الانفصالية. كان الصانع والمنديل من أوثق المتعاونين مع السيد طالب خلال الحقبة العثمانية الأخيرة، وبقي الصانع على تماس به أثناء منفاه في الحرب إلى الهند. واستأنف طالب والصانع حوارهما في بواكير عام 1920، ونسب بيان مجلس البصرة المؤيد للبريطانيين في ثورة 1920 إلى نفوذ السيد طالب إلى حد ما. ويوحي تعيين الصانع لاحقاً حاكماً خلال تولي طالب منصب وزير الداخلية في الحكومة الموقتة باستمرار علاقة العمل بينهما. ومن ناحية أخرى، كانت العلاقات بين المنديل وطالب أكثر توتراً بعد الحرب، والحقيقة أن المنديل لم يتولَّ منصبه فعلياً في الحكومة الموقتة، مما أوحى للمراقبين البريطانيين بأن ذلك بسبب الحقد الشخصي بينه وبين طالب. في معزل عن هذه الروابط، أعرب طالب في بعض الأحيان عن أفكار مقاربة للرؤية الانفصالية. قبل الحرب، فاتح البريطانيين بإمكان تأسيس إمارة مقرها في البصرة بدعم من لندن. وفي هذه العروض، صورت البصرة كوحدة محتملة في خيط من الإمارت التي تحميها بريطانيا في جزيرة العرب والخليج. وخلال ثورة عام 1920، اقترح طالب أن من الضروري الإبقاء على البصرة منفصلة عن بغداد والموصل في المستقبل، إذ ثبت أن من المستحيل فرض إدارة موحدة على هذه الأراضي بأسرها تحت الاحتلال البريطاني. على رغم هذه الصلات، هناك مشاكل عدة تواجه النظرية التي ترى أن السيد طالب هو المهندس المخطط لمطالب عام 1921 الانفصالية. ففي الجزء الأكبر من عام 1920، عمل بلا كلل في بغداد لتحصين النفوذ داخل إطار النظام الناشئ. وأُصيب طالب بالخيبة حين نُصِّب نقيب بغداد المسن، عبدالرحمن الكيلاني، وليس هو نفسه، رئيساً للحكومة الموقتة، وشعر بالإحباط حين لم يسمح له بالسفر إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر آذار مارس 1921، في حين بدأت الاشاعات بترشيح فيصل لعرش العراق في الذيوع. مع ذلك، موّه على مطامحه الشخصية بتظاهره بإعلان أن نقيب بغداد هو أفضل مرشح للتاج، وخلال الأسابيع اللاحقة قام بزيارة مراكز عدة من المناطق جنوببغداد بما فيها البصرة في حملة لمصلحة الكيلاني، تحت شعار:"العراق للعراقيين". وعند عودة كوكس إلى بغداد كان قد تم إيصال المطالب بالانفصال أصلاً، كان طالب يبدو في حمّى العمل في سبيل تنصيب النقيب وفي ظل النقيب نفسه على عرش العراق، وأعلن لكوكس أنه ضد استقدام حاكم"أجنبي"أي عربي. وفي نهاية الأمر، حملته مطامحه إلى صراع مباشر مع السلطات البريطانية التي بدأت أولوياتها في ما يتعلق بملك المستقبل تزداد وضوحاً. وخلال عشاء في بغداد في نيسان أبريل، ألقى طالب خطبة محذراً من النتائج الكارثية إذا تدخلت بريطانيا في انتخاب حاكم جديد، وصار يلمح إلى إمكان انتفاضة مسلحة لبعض قبائل الفرات الأوسط ودجلة. استخدمت السلطات البريطانية هذه الملاحظات في ما بعد ذريعة لترحيله، متهمة إياه بإثارة القلاقل بين الأهلين. من الممكن أن نتصور أن طالب استثمر مخطط البصرة الانفصالي بطريقة مشابهة، أي كتهديد يلوّح به لمساعدته في سعيه للوصول إلى السلطة. لكنه لم يستعمله حينئذ، وحين كان في ذروة يأسه، ادعى المراقبون البريطانيون أن مطالب الصانع والمنديل جاءت رد فعل ضد تهييج السيد طالب خلال جولته، وليس استجابة لها. والنقطة الأساسية هنا أن وجهاء البصرة استمروا في الدفاع عن الانفصال بعد أن غادر طالب المشهد بفترة طويلة. وحين تكثف العمل بالعريضة، كان طالب يعيش في سيلان البعيدة، منفياً للمرة الثانية في حياته. وهذا ما يوحي بقوة بوجود دوافع للانفصال لا علاقة لها بالسيد طالب وألعابه السياسية. في بواكير عام 1918، شرح أحمد الصانع لماذا لا يريد إدارة عربية، بعرضه"طابوقة"جديدة في بيته أمام ضابط بريطاني. كانت"الطابوقة"تسد فراغ فجوة سابقة قبل الحكم البريطاني، عمل حرسه المسلحون على وضعها في مكانها ليل نهار. وتوقع أن الحكم الذاتي للعرب سيفرض عليه أن يزيل"الطابوقة من جديد. ولاحقاً، في أثناء مقابلة مع بيل في خريف 1920، انتقد موقف البغداديين في هياجهم المتزايد للمطالبة بالاستقلال: لماذا لا يدركون فوائد الحكم البريطاني؟ برر الصانع وجهة نظره بالتنويع على موضوعة ذكرها عام 1918: قبل الاحتلال، لم يكن في وسعه أن يلقي نظرة على بساتينه، ما لم يصحبه"عشرون رجلاً مسلحاً". أما الآن، فالبصرة مكان آمن. وبموقفها الأحمق ستظل بغداد"تحصد نتائج أعمالها"ما دام البريطانيون يتمسكون بالبصرة. قدمت بيل في ما بعد معلومات إضافية عن الأفكار الانفصالية في صيغ جديدة لحججهم. ففي نبذة عن كيفية دفاع المنديل عن رؤيته الانفصالية في عشاء في بغداد في آب أغسطس 1921، اختصرت بإيجاز موقف الوجيه البصري بقولها:"إنه تاجر كبير وهو يريد أن يصطاد السمك في أهدأ المياه ويستطيع أن يجده في مياه أهدأ من تلك التي تتدفق عبر الممالك العربية". وهذه العبارات تردد صدى المزاج الذي ساد في الاجتماع في نيسان 1921 بين الصانع والمنديل وكوكس، حين أعرب الوجيهان البصريان عن غايتهما في الإفلات من"الضغائن والاضطرابات التي ستلازم حتماً إقامة دولة عربية". لعل لهذا التشديد على أمن الأشخاص والأملاك، وكذلك الرغبة في الاستقرار السياسي، علاقة أيضاً بمؤيدين أساسيين آخرين للعريضة الانفصالية، وقد عانى كثير منهم المتاعب خلال أطوار الاضطراب في البصرة في ماضي العهد العثماني. رأى الآغا جعفر سوقاً له بكامله يهدم أمام عينيه حين شرع الأتراك الشباب في تطوير نظام الطرق في البصرة عام 1910. وعاش نوح وعبدالأحد عقداً من الزمن قبل الحرب شاهدا فيه زملاء لهما من الأرمن واليهود يُقتلون خلال حوادث السطو المسلحة"وكان أحد المؤيدين المعروفين للمشروع الانفصالي، وهو طه السلمان، ينتمي إلى عائلة قُتِلت الشخصية الأكبر فيها عام 1904 بأيدي رجال محليين أقوياء ممتعضين من وضع العائلة الاقتصادي القوي. وفي الفترة الأخيرة، اتضحت مزايا الاستقرار السياسي للنخبة التجارية بأسرها حين استمرت بيئة البصرة التجارية بالعمل في شكل اعتيادي أثناء ثورة 1920، بينما شهدت بغداد ركوداً واضحاً. مع غياب أدلة أكثر تحديداً عن دوافع الانفصاليين ومعارضي الانفصال، قد تقدم المقارنة بين خلفياتهم الاجتماعية مفاتيح سياقية معينة. ففي حين كان الانفصاليون في شكل عام في الخمسينات أو الستينات من العمر، كان معارضو الانفصال أكثر شباباً، ولم يكد بعضهم يتخطى الثلاثينات. ومن خلال المعايير الطائفية، كان الوفد الانفصالي يمثل طيفاً أوسع من الطيف الذي يتزعمه معارضو الانفصال الذين كانوا جميعاً باستثناء واحد من السنّة، غير أن الجدير بالانتباه أن اثنين من الشيعة في الوفد كانا ممثلين للطائفة الفارسية الصغيرة والمتدفقة في البصرة، وكذلك الحال مع القرنة على الأطراف. أما أكبر تجمع عربي شيعي للسكان في البصرة، أي القرنة، فلم يكن ممثلاً. ولم يكن هناك من يمثل رجال العشائر الشيعة على طول النهر ممن كانوا يعتبرون خزعل شيخ المحمرة زعيمهم لدى الانفصاليين. ومن الناحية الجغرافية، كانت هناك مبالغة في تمثيل مدينة البصرة القديمة في كلا المعسكرين"فمن معارضي الانفصال لم يكن يسكن العشار سوى شخص واحد هو الشمخاني. وكانت لقلة من معارضي الانفصال روابط عائلية برجال الدين السنّة المحليين، بينما لم يرتبط الانفصاليون على نحو وثيق بأي زعماء دينيين. وينتمي أغلب الانفصاليين إلى عائلات استقرت في البصرة في غضون جيل أو جيلين ماضيين، غير أن خصومهم أيضاً كانوا يضمون أفراداً هاجر آباؤهم أو أجدادهم أخيراً إلى البصرة نسبياً، وأناساً تشكلوا شمال بغداد أو نجد في كلا جانبي الانقسام السياسي. وفي ما يتعلق بالتعليم أو الخلفية المهنية، كان هناك تمايز واضح. إذ كان التجار من ملاك الأراضي يهيمنون على الانفصاليين، بينما كان أولئك الذين يؤثرون روابط حميمة ببغداد والشمال في الأعم الأغلب رجالاً قضوا الجزء الأكبر من حياتهم يخدمون في المراكز المدنية أو الوظائف الخاصة، بعد إكمال جزء من تعليمهم على الأقل بحسب النظام العثماني. على أنه لا يجب دفع هذه الثنائية إلى أبعد من ذلك، إذ لم يكرس سوى قلة من الموظفين العثمانيين السابقين وقتهم للمهام الإدارية حصراً. وكما كان معتاداً في المناخ التجاري للبصرة، حافظ الكثيرون على استمرار شؤون أعمالهم في الوقت نفسه. وعلى غرار ذلك، لم ينأ الانفصاليون أبداً بأنفسهم عن الدولة العثمانية، بل كان كثير منهم أعضاء في مجالسها المحلية. وما يمكن قوله هو أن معارضي الانفصال كانوا يتطلعون إلى الدولة العثمانية للعيش فيها، بدرجة أكبر من أولئك الذين آثروا الوضع الخاص للبصرة. كانت المواضع الجغرافية لنشاط الجماعتين المتنافستين مختلفة أيضاً، غير أن الخطوط التي تفصل بينهما أكثر ضبابية. إذ كان بعض زعماء الانفصاليين، لا سيما المنديل والصانع، يميلون أكثر إلى مواطن أسلافهم في نجد وكذلك نحو الخليج، حيث أضفت عليهم نشاطاتهم الديبلوماسية بعض الهيبة، وحيث اكتسبوا معرفة بطرق بديلة للتنظيم السياسي خارج المنظومة العثمانية. غير أن ثلاثة من زعماء الانفصاليين في الأقل وهم نوح وآغا جعفر والسعدون كانت عندهم أملاك زراعية ممتدة على طول نهر الفرات في المنتفك، وهي منطقة صاروا يريدون الآن ضمها"وهاجر العضو الآخر في جماعتهم وهو عبدالأحد أخيراً من الموصل، حيث تتمتع طائفته من الكاثوليك السريان بموقف أقوى مما في البصرة"وقضى الانفصالي ذو الخلفية العشائرية من المنتفك السعدون وقتاً ليس بالقليل في العاصمة العثمانية. كما لا يمكن الادعاء أن الرغبة التي تخامر معارضي الانفصال بالاتحاد مع بغداد قد تشكلت في سياق خالٍ من التأثيرات البديلة"فباش أعيان كان كثير الأسفار إلى الهند، بما فيها بومباي التي كانت للنخب التجارية في البصرة روابط جيدة بها"وكان عمر فوزي موظفاً في الأحساء في الجزيرة العربية لسنوات"وتلقى أحمد حمدي بن ملا حسين تعليمه في الحجاز. وهكذا، فإن أبرز مظاهر الاختلاف بين الانفصاليين ومعارضي الانفصال كان يتعلق بالعمر والوظيفة. إذاً، لماذا كان المسؤولون العثمانيون السابقون مولعين إلى هذا الحد بالروابط الحميمة مع بغداد؟ يمكن العثور على خيط يهدينا في الأحداث التي جرت خلال الشهور الأخيرة قبل أن يندلع النزاع الانفصالي. بعد توحيد البصرةوبغداد إدارياً عام 1918، أُعيد تفعيل النظم القانونية العثمانية في البصرة، في عودة إلى منظومة القوانين التي كان معارضو الانفصال على دراية بها. وفي الشهور الأولى من عام 1921، حصل ثلاثة منهم على رخص بممارسة القانون أمام المحاكم في الأراضي المحتلة، بينما شهد رابع أخاه وهو يعين حاكماً على العمارة شمال الحدود المقترحة بين البصرةوالعراق. وإضافة إلى هذه الترقيات الوظيفية، لا شك في أن المخطط الانفصالي كان يمثل تهديداً، لأن نظاماً إدارياً خاصاً بالبصرة قد يحيي الأفكار القديمة عن الإدارة البريطانية المباشرة، ويشكل عودة الى الإطار القانوني المستوحى من الهند. لقد تلقى المحامون المرخص لهم حديثاً تعليمهم في بغداد وقونيا وإسطنبول، وتفرق زملاؤهم السابقون عبر الأراضي العثمانية القديمة. وبدلاً من أن يشكلوا جزءاً من شبكة واسعة من الخريجين العثمانيين السابقين، ها هم الآن يتعرضون لخطر فقدان الوظيفة والانعزال في مستعمرة بريطانية في مدينة تعتمد شهرتها في الأساس على التمور والتجارة. ويتضمن نص العريضة المعارضة للانفصال فقرات تدعم هذا التأويل للدوافع نحو وحدة أكبر. فعند إيجازهم مطلبهم، ركز معارضو الانفصال على أمرين: الأول"ألاّ يوجد في المستقبل أي اختلاف في الوضع بين لواء البصرة وأي لواء آخر في العراق، والثاني، أن تتطابق قوانين البصرة مع القوانين في بقية الألوية. والمطلب الثاني موجود ضمناً في الأول، لكن جوهر الأمر يكمن في أن نظاماً قانونياً موحداً من البصرة إلى الموصل كان بوضوح ذا دلالة خاصة لدى مقدمي العريضة ويستحق أن يفرد بالتخصيص. وقد يروق هذا الموقف المعارض للانفصال أيضاً لمن لم يظهروا الحماسة لفيصل، أو في الحقيقة للعراق: فالبديل الانفصالي سيحول بلا شك دون عودة العثمانيين إلى البصرة، ولعل أتباع النظام القائم في إسطنبول كانوا ينظرون إلى معسكر معارضي الانفصال فقط ليتجنبوا تحويل المدينة الخليجية إلى معقل بريطاني. الجماهير الانفصالية كم كانت المطالب الانفصالية تمثل الجماهير الشعبية في البصرة؟ يظل هذا السؤال بلا جواب إلى حد كبير، وما يمكن استنتاجه هو أن النخبة المحلية السابقة من العهود العثمانية هيمنت الآن على الوفد الانفصالي، إذ بدأ المنديل والصانع بالبروز قبل الحرب بسنوات"وكان آغا جعفر واحداً من التجار الفرس الأكثر توفيقاً في التعامل مع العثمانيين"ومثّل نوح وعبدالأحد اليهود والمسيحيين في مناسبات عدة في ظل النظام القديم. فعلى مستوى النخبة، لم يكن زعماء الوفد الانفصالي يقلون حسن تمثيل، أو بالأحرى سوء تمثيل، عن مجالس الوجهاء خلال أيام العثمانيين. ربما لا يقول الحساب الرياضي لأرقام تواقيع الانفصاليين ومعارضي الانفصال 4500 مؤيد مقابل 1500 معارض شيئاً كثيراً عن الدعم الشعبي أو المقاومة الجماهيرية للمخططات. بل إن الأرقام تعطينا فكرة عن السلطة الاجتماعية لرافعي العريضتين، لأن كل الروابط الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة جعلت من الجماهير العريضة لسكان البصرة مجرد تابعين لنخبة ملاك الأراضي. فأهل المدن الذين يعيشون في قصور مرفهة كانوا يسيطرون على كل من بساتين النخيل في الأرياف والعقارات في الحضر، وكان يستعصى على الفقراء أن يجدوا محل سكنى مناسباً. وصار كثير من وجهاء الحضر رعاة للمعوزين، يطعمون ويحمون من جاءوا إلى بيوتهم وإلى التجمعات الاجتماعية العامة كالدواوين والمآتم وهم يتوقعون منهم الولاء مقابل ذلك. وظهرت السلطة الاجتماعية وراء هذه العلاقات في غاية الوضوح خلال الحقبة العثمانية الأخيرة، حين كان وجهاء البصرة قادرين على تجنيد مئات الرجال من مزارعهم متى احتاجوا إلى عمال في المدينة. والحصول على تواقيع مئات في عريضة كان مهمة أسهل من ذلك بكثير. ولمعرفة الرأي العام، من الضروري أن ننظر في فترات أخرى، لم يكن فيها البريطانيون يعيرون أذناً صاغية للرهان على النخب. ومن المثير، خلال الاستفتاء الذي أعد له المسرح بعناية في أواخر عام 1918، أن المعلومات كانت تتوارد حول مقاومة شعبية في التقارير الرسمية. وقد ذكر الصانع [لكوكس] عند مقابلته اياه أنه"منذ الهدنة، عبر ثلاثون في المئة من السكان إلى جانبكم"أي صاروا مؤيدين لبريطانيا. بينما ادعى آخرون أن ستين في المئة من السكان لا يريدون الحكم البريطاني"مهما كان الثمن". وقال نائب عثماني سابق إنه"كان هناك حديث واسع عن حكم الكفرة". المهم هنا ليست النسب المئوية، بل التصور الواضح عند النخبة التي ربما كانت مؤيدة للبريطانيين على السواء عن رأي عام كان معادياً للحكم البريطاني. تركزت التعبيرات عن الشعور المعارض للبريطانيين في البصرة خلال ثورة 1920 في المساجد والمقاهي في ضاحية العشار، حيث اشترك أناس ينحدرون من خلفيات ثقافية أكثر تعدداً من تلك التي كانت ممثلة في المجالس المحلية. وبقيت بعض هذه الدوائر فعالة حتى سنة 1921. ولكن كانت توجد أيضاً تجمعات سياسية من دون أن تكون لها روابط وثيقة بأي من معسكري النزاع الرئيسين حول النزعة الانفصالية. وقد حصل نشاط مركز لهؤلاء في بيت الشيخ عبدالمهدي بن إبراهيم المظفر، وهو رجل دين من العشار ظهر كشخصية شعبية في الدوائر الشيعية. وعلى خلاف علماء الشيعة الآخرين في البصرة، لم ينشئ علاقات وثيقة مع البريطانيين. بل دعا، بدلاً من ذلك، زواراً من النجف، وكذلك الملالي المحليين الذين ألقوا الخطب عن الكوارث التي ستحل على كل من يتخلون عن العثمانيين لمصلحة الحكام الكفرة. وتنقل التقارير عن هذه الاجتماعات أسماء بعض التجار الشيعة، لكنها تعطي أيضاً أسماء أناس مجهولين لم يظهر لهم ذكر في المصادر أبداً مثل: ملا خلف، ومحمود أفندي شلال، وحامد التوتنجي. ربما لم يثر هؤلاء الأفراد اهتمام البريطانيين كثيراً، لأن نفوذهم الاجتماعي لم يكن بقوة نفوذ النخب التي تتصدر المعسكرين المتنازعين حول الجدل الانفصالي. على رغم ذلك، يكشف حصول هذه الاجتماعات عن حضور عناصر سياسية فعالة في البصرة بقيت في منأى عن الانفصاليين ومعارضي الانفصال على السواء. سيظل إلى الأبد ما كان يدور في أذهان الستة آلاف شخص الذين وضعوا أسماءهم على عرائض تدعو إلى أو ضد ضم البصرة في المملكة العراقية القادمة في حزيران 1921 سراً من أسرار التاريخ، وكذلك ستظل مسألة كونهم يفهمون جيداً أو يفتقرون إلى فهم واضح للوثائق التي وقعوا عليها. والمعروف أن الجماهير الشعبية للبصرة شاركت يوم 23 حزيران في حدث لعله كان من الأهمية عندهم بأهمية الوثائق الغامضة عن الدولة التي لم توجد. في ذلك اليوم، أتيحت لهم الفرصة لتشكيل انطباع عن الرجل الذي كان على وشك أن يتولى مقاليد الدور"كأمير عربي". وصل فيصل بن الحسين على ظهر سفينة. وقيل إن الحشود بلغ عددها آلاف الناس الذين اصطفوا في الشوارع الضيقة حين ترجل فيصل من المركب وانتقل بالسيارة إلى بيت أحمد الصانع ? أحد زعماء الانفصاليين، لكن ذلك كان ضمن واجباته كحاكم للبصرة ومسؤول عن توفير لوازم الضيافة للمطالب بالعرش. وفي اليوم التالي، بعد لقاءات مغلقة مع جماعات من الوجهاء، ظهر فيصل للحشود التي تجمعت في الشوارع وانتظمت على السطوح والشرفات وفي كل مكان أتيح لهم أن يلقوا منه نظرة على ساحة دار الحاكم. وكان بعض عناصر الاحتفال مألوفاً لدى المتفرجين، مثل الفرقة الموسيقية، واستعراضات الكشافة، التي كانت أمراً متبعاً في الاحتفالات العامة في الحقبة العثمانية الأخيرة. ولكن ظهرت أيضاً مكونات جديدة تماماً، فبدلاً من الراية العثمانية، كانت تخفق فوق الرؤوس راية العائلة الشريفية في مكة. وبدلاً من الخطب باللسان التركي، كانت الكلمات والهتافات بالعربية يلقيها شباب من البصرةوبغداد. وقد كان في القلب من ذلك كله رجل عربي، هو فيصل الحجازي، الذي خاطب الجماهير بخطبة بليغة استدرت إعجابهم واستحسانهم. تنويه الحلقتان اللتان نشرتا أمس واليوم هما من نسخة أولية لترجمة الكتاب التي تم تعديلها في النسخة النهائىة التي ستصدر كاملة في الكتاب الشهر المقبل. وفي حال وجود أي غموض في النص يمكن العودة الى: www.historiae.org