هناك في منطقة قصية من الذاكرة، من علبة افتراضية.. يُخبئ كل واحد منا كنزه. حتى الأشياء البسيطة تختبئ هناك بعد أن صارت بفعل المسافة الزمنية كنزاً، لا نحتاج إلى الحفر تحت التراب لاستخراجه. يلبس في كل مرة هيئة ذكرى. الذكرى هي رسالة أيضاًَ، رسالة مؤجلة لأنها مكتوبة بالوجع والمشاعر الفياضة. هكذا يتحدث الإعلامي الشهير «اندرسون كوبر» في شبكة «سي إن إن» عن ذكرياته مع والدته بعد وفاتها: «جلوريا فاندربيلت». يمسح دمعات انسابت فوق خده بأطراف أصابعه، وهو يقول: كانت ليلة اختفاء القمر. كانت أمي امرأة تتكلم، وتغني، وتضحك عالياًَ كالبحر حين يهتز مُقهقهاً. كانت تتشبث بالحياة كما يتشبث الماء بالرمل، على الرغم من أنه يبتلعه في النهاية. كانت أمي سلةً من الزهور، زنبق، قرنفل، أقحوان.. خليطاً من الزهور. كل نوع من هذه الزهور له معنى. خليطاً من المعاني، تشبه الإنسان الذي يمكنه أن يعيش وفي قلبه أحاسيس مختلفة، أو متضاربة أحياناً. يتحدث بخفة ذلك النشال اللطيف الذي يفرغ محتويات محفظتك بهدوء، ثم يتكرم بإرسال بطاقتك الوطنية إلى عنوانك الوطني. يتحدث كما ينزلق النور، في صمت من سطح بيت إلى آخر. يقول: في أيامها الأخيرة كنت أوقظها، عندما أعودها، بلمسة خفيفة على كتفها. تستيقظ وكأنها انبعثت من عالم آخر. تصحو من النوم كطفلة، النوم صحو من موت مؤجل، كمّ يشبه الموت النوم. تذكرت وهو يقول ذلك، رواية «كأنها نائمة» ل «إلياس خوري» التي افتتحها ببيت شعر لأبي العلاء المعري: الموت نوم طويل لا هبوب له.. والنوم موت قصير بعثه أمم. يفتح نوافذ ذاكرته في التقرير التلفزيوني الذي أعده عن حياة أمه، وشخصيتها المتميزة، وحضورها المؤثر في عالم البزنس والشهرة، وحياتها الصاخبة المليئة بالأضواء والشهرة والمغامرات العاطفية. وكيف صارت سيدة مجتمع شهيرة، واسماً معروفاً في عالم بزنس الأزياء، ومجتمع رجال الأعمال على مدى عقود طويلة. حكاية بل حكايات عديدة لامرأة عاشت كأسطورة وأرادت أن تعيش حياتها بالطول والعرض، فلم تستسلم أبداً لمفاجأة الزمن والقدم. قاومت عبث الحياة، وانخرطت دائما في قصص الحب والغرام. تم تسميتها في السبعينيات من القرن الماضي، ب «ملكة بنطلونات الجينز». ففي عام 1978 تم بيع كل بنطلونات الجينز التي أنتجتها الشركة، وعددها 150 ألفا، فكرة تصميمها للجينز كانت ما يمكن وصفه بثورة، إذ إنها أرادت التأكيد أن المرأة لكي ترتدي الجينز، لا يجب أن تكون نحيفة كموديلات الأزياء، ووصل بزنس الجينز إلى حجم ال 100 مليون دولار بسببها. قالت في مقابلة تلفزيونية، وهي في الثمانينيات من العمر: «إن قلبي دائما مفتوح للحبيب، لأن وجود هذا الحبيب في حياتي، دائما يحدث تغيراً كبيراً في لمحة بصر. الحب هو ابن الحياة، وصوتها السري. كيف أكذب على الحب إن اجتاحني؟ لقد أحببت أزواجي الأربعة كلهم، وبنفس القدر». كنت أستمع لتلك المرأة القادمة من غرب تفاحة القلب، ومن شرقها، ومن كل الجهات.. وهي تقول ذلك، وهي التي توفيت بعد ذلك، وعمرها 95 عاما.. وأتساءل: هل يعقل أن يحب الإنسان أربع مرات وبنفس القدر؟ لا أعلم!! كل ما أعرفه أن الحب هو الحب، طاقة نمتلئ بها، وما المحبوب إلا شخص واحد، اخترناه لنعرض أمامه اكتشافنا العظيم، لأنه يشبهنا، أو لأنه مختلف كثيرا عنا، أو يحمل الكثير من نواقصنا، فيكملنا. نقع فيه في لحظة إعجاب، اكتئاب، ضعف، أو اشتياق حنين، أو إغواء، شغف، أو كل هذه الأشياء معاً! وأقول مختلفاً عنا أو مكملاً لنا، لأنني أحببت امرأة، أعيش معها منذ 42 عاما أرق من زجاج المعابد، تبتسم دائما فتفتح أزارير القلب.. لتأخذ ما تشاء من نبضات، كلما أقول لها: يا حبيبتي هل تبدين أقصر، ترد علي بشموخ وثقة، بل أنت من تبدو أكثر طولا.. هذا هو التكامل الذي أعنيه..!