نقيس الزمان على أساس متين لا نعلم طرقه وكيفية حساب خفاياه، فهو خليط بين الأمل والحياة والموت والبقاء، نجهل تكوينه ولكن نؤمن بحقيقته، لأنه أساس المشيب من بعد السواد، والعجز من بعد الشباب، والحزن من بعد الابتسامة، وفراق كل ما هو ماضٍ وحي. لم تكن لحظات خافية، ولكن كانت حياة غامضة بالنسبة لي، إذ نشأت نفسا ضعيفة في رحم أمها تمور بين حنايا شوقها وتزخر بعبق رحيق عطفها وتستظل بظلال أمنها بعيدا عن أعين الحاسدين والمعتدين. لا أكترث للجلبة وإزعاج الآخرين.. فأنا في مأمن عنهم وعن جلبتهم وجل مشكلاتهم، لا آبه لما يقولون، ولا آبه لما يفعلون أو يعتقدون، فأنا أريد ما ينبض لي قلبي، ويملأ لي ذاتي بالحياة، وبصيرتي بالضياء، وجرحي بالشفاء، وعقلي بالإصر المستبين. حتى مضت سنة الأولين ومر من عمري سنين وشاب ذاك الشعر الأسود وغسق الليل، وجن صباح فجر جديد، ليس بذلك النور القديم، بل بنور جديد لم أعهد مثله من قبل، يؤذي ولا ينفع، وسكره الدم إذ تدمع! صاحت ونادت من مكان بعيد صراخ استغلال وحقد، لا صراخ حب وخوف من أن يلتهمني غيري فأمكث في بطن حوت اليأس حين التهمت نفسا من الصالحين، أغمضت عيني ورضخت لمطالب غيري وطاوعت نفسي بأن أخضع للدنيء الذي اهان كرامة نفس عاشت بين جنان رحم أمها سنين. طال بي العمر وأصبحت الجزء الآخر من قبلة الزمان للبشر وشيخوخة العصر، حتى فارقني من كان يجاملني ويزعم اهتمامه بي فراق حياة لا ممات! فقلبه ما يزال ينبض ولكن نبضه بالكره، وروحه ما تزال تصحو ولكن صحوه بانتهاء المطر وموت جميع المحاصيل. رقدت بآخر عمري في فراش أبيض مماثل للون شعر رأسي، والعجز يلتهم جسدي ماكثا بالظلل، بلا قريب يرحب بي، ولا بعيد يشتاق لي! فلا أسمع إلا أصوات الطرق بالأرض لأجدها أمي التي كبر بها الزمان وأنساها كل شيء إلا ابنها الحبيب الذي ترعرع في رحمها، فصارعت القدر من أجله، وسارت بعجزها وتحملت مشقة سيرها وثقل عصاتها فقط لترى ابنها بالوقت الذي تناساه أقرب الناس إلى قلبه.