تمثّل الكتابة الروائية عالماً فنياً مستقلاً بذاته، وشديد الحساسية تجاه ما يجاوره من أجناس كتابية تتعالق أو تتقاطع معه. وبقدر ما تبرز مهارة الكاتب في تفادي سيرته الذاتية في عمل فني إلا أن قِلة من نجحوا في الاحتجاب خلف أبطال آخرين، وضللوا القارئ ليعجز عن القبض عليهم في رواياتهم إلا قليلاً، لينفتح باب سؤال كبير عن كيف يتفادى كاتب السرد الروائي الوقوع في السيرة الذاتية؟ وما نسبة حضور الكاتب في عمله المكتوب؟ وهل إدراج الروائي سيرته خيانة لميثاق الرواية؟ يجيب الناقد أحمد بوقري بأنه ينبغي ألا نخلط بين العمل الروائي والسير-رواية. وقال: «يظل العمل الروائي بناء سردياً شاهقاً يمتح من الخيال أكثر مما يمتح من الذكرى أو الذات في عوالمه وشخصياته وأمكنته، وصيرورات الحدث الفني» ويراه بوقري، إعادة بناء واقع جديد يتم في نسيجه تخييل آخر للواقع وللشخصيات وللزمن الروائي، بخلق حدثه المغاير بالتوازي متقاطعاً مع شواهد الواقع.. ووقائعية الزمن الموضوعي والذاتي في آن. وأضاف بوقري: رغم أن العمل الروائي معمار فني خالص في إبداعيته إلا أنه غير منفلتٍ من ذاتية المبدع ورؤيته وفكره.. كونه يقتبس شيئاً من تجربة المبدع في الحياة دون أي شك، لافتاً إلى أنه يستقل عنه في معماريته وأدبيته، مؤكداً أن الكاتب لا يمكن أن يتفادى انسراب ذاتيته أو رؤيته أو فكره الفني أو رؤيته للعالم إلى العمل الروائي، إلا أنه لو ينسرب بكلّيته في العمل يصبح قريباً من روح السيرة الذاتية أو هي ذاتها ملتبسة في تضاعيف الحدث. مشيراً إلى صعوبة خلع السير-رواية عن سرديتها أو روائيتها، وعدها روائية مخترقة ومشبعة بالذات السردية حد الثمالة، بعكسها ظلال الذات وظلال الزمن الشخصي والتجربة، وإن نسجت المكان والذكرى في ضفيرة فنية سردية تؤول في النهاية إلى تاريخٍ فني للمبدع يأخذ شكل الرواية مكتملة التقنيات والرؤى. فيما أوضح أستاذ الأدب والنقد في جامعة الباحة الدكتور سعيد الجعيدي أن النظرية السردية الأدبية سعت لمقاربة الحدود الفاصلة بين أنواع وأجناس النصوص السردية، وخلصت في بعض أطروحاتها إلى تلمس تلك الحدود ووضعت لها بعض الضوابط، المستقاة من داخل النصوص ذاتها ومن خارجها، وربطت ذلك أيضا بالسياق، ولفت إلى أنه مع ذلك كله إلا أن هناك مناطق ومساحات نصية من الصعب حد الاستحالة تبين حدودها، إذ هي تقع على التخوم بين عدد من التصنيفات النوعية والجنسية التي تتجاذبها، ولاسيما إذا فقدت خصيصة المهيمنة الأدبية المسيطرة على النص السردي، بكل ما تحويه النصوص السردية مما هو ذاتي شخصي وما هو خلاف ذلك..! وأكد الجعيدي أن التصنيفات النقدية معبرة عن مثل هذا التداخل ولاسيما فيما يتعلق بالسرد الذاتي والرواية، للتمييز بين السيرة الذاتية والسيرة الروائية والرواية، ومحاولة فرز النصوص وفقاً لصلتها بكاتبها من خلال: ميثاقها الأدبي وتقنياتها السردية المختلفة وأمور أخرى. وعدّ الجعيدي تسرّب الذاتي موضوعاً وتخييلاً إلى الرواية لا حدود له، شأن تسرب الروائي إلى السرد الذاتي، وإن كان بدرجة أقل. وعزا الانسراب إلى أسباب عدة، منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، ومنها ما يتعلق بطبيعة الكتابة والإبداع، ومنها ما يتعلق بالمبدع ووعيه ومحيطه، وقال: «يمكن سبر ذلك بحسب طبيعة كل عمل سردي والمنهج الذي يتخذ لمقاربته، ويرى أن امتزاج الذاتي بغيره ملازم للإبداع الأدبي في كل تشكلاته وتمظهراته منذ أقدم نصوصه، وسيبقى كذلك حتى آخر نصوصه، بحكم أنه ليس هناك نص سردي خالٍ من الذاتية والحالة مثل ما ليس هناك نص سردي لا علاقة له بالعالم الخارجي حتى ولو كان ذاتيا صرفا. وأضاف: وقفزاً على التصنيفات الأدبية المرتبطة بالجنس والنوع، أصبح مصطلح النص مفهوماً جامعاً للنظرية الأدبية المعاصرة للخروج من الإشكالات، ولتعبيره عن رؤية أعمق ورؤية أشمل وأوسع للإبداع اللغوي، آخذة في الاعتبار معطيات جديدة، متعالقة بحقول معرفية مختلفة. مؤكداً أن سؤال الهوية وارتباط الذات بالآخر والوعي بها يظل متجدداً دائماً ومنفتحاً على لا يقين الوهم ونسبية الحقيقة. فيما تساءل الخبير الثقافي الكاتب هاشم الجحدلي: «ما المعضلة في حضور بعض ملامح أو تفاصيل السيرة حتى يتفاداها الروائي؟» وأجاب بقوله: من وجهة نظري أن العمل الإبداعي بشكل ما ولو كان مختلقاً تماماً فهو في النهاية يستمد طينته الأولى من سيرة الحياة خصوصاً وعموماً ليشكل منهما معماراً ربما لا يتقاطع سوى جزئي وأحياناً لا يتقاطع مع مفردات حياته. ولفت الجحدلي إلى أنه ليس الشعر فقط من تشظى وتعددت أشكال ونزعات كتابته، كوننا اليوم نقرأ عشرات الروايات ذات الأشكال الكتابية، بدءاً من الشكل العمودي المتواتر، وما يجسّد إرث الحكاية مروراً بروايات تيار الوعي وما بعد الحداثة والرواية الشعرية والرواية التي تعتمد على استثمار وسائل التواصل الاجتماعي من رسائل وبوستات وأشكال أخرى. وعزا الجحدلي الإشكال إلى فقر حياة الكاتب أو عدم استيعابه لفضاءات حياته، ليكتب رواية يجمع فيها كل ما يخطر وما لا يخطر على باله من ذكريات ومشاهد وإرث اجتماعي وتصادف الرواية نجاحاً، فيعمد بعد ذلك إلى استنساخ هذه المكونات وإعادة كتابتها مرات ومرات بشكل متكرر وسرد مكرور دون أي إضافة لتغدو مجرد حشو لا أكثر أو أقل، ويرى من الندرة أن ينجح العمل ويجد السارد نفسه أمام عقبة كأداء لا يستطيع معها أن يكتب عملاً ثانياً يتجاوز عمله الأول، ويفشل في توفير خميرة كتابية تساعده على عمل جديد، فيتوقف قسراً أمام نجاحه الأول والوحيد، مؤكداً أن الإشكالية ليست في المادة الخام للرواية أو العمل السردي، بل في كيفية توظيفها وجعلها أكثر طزاجة وقبولاً عند القراء، مستعيداً معظم أعمال (هنري ميللر) القائمة على تنويعات على مصائر حياته، لافتاً إلى أن الروايات الفائزة بالمان بوكر والغونكور في العقد الأخير هي بشكل أو بآخر روايات مادتها الخام سيرة حياة كتابها أو كاتباتها، وآثر الجحدلي قراءة عمل جيد ومحفز على القراءة، دون أن يعنيه من أين جاء الكاتب بمادته الخام.