كَثُر، هذه الأيام، المحللون السياسيون والاستراتيجيون، بعلمٍ وبغيرِ علم. فُتحت لهم بوابات القنوات الفضائية.. وأزقة أدوات التواصل الاجتماعي.. وأعمدة الصحف والمجلات... بل وحتى أحياناً «مطابخ» صناعة القرار! مع افتراض أن هناك قدراً من الجدية والحيادية والموضوعية والعلم والدراية بمناهج التحليل العلمي الرصين فإن التحليل السياسي لن يرقى إلى قدرة تفسيرية واستشرافية متقدمة، لتفسير الواقع السياسي لحدثٍ ما والإلمام بجوانب أبعاده واستشراف حركته المستقبلية، خارج معلومة موثقة ودقيقة. أيضاً: لا يمكن، في كثيرٍ من الأحوال، ضمان موضوعية التحليل السياسي، بعيداً عن تدخل وتأثير مؤسسات صناعة القرار.. وأجندة أدوات وسائل الاتصال، للتحكم في خطابه واستغلال جدله والاستفادة من منطقه. حتى مع افتراض توفر حرية التعبير وما يُقال عن حرية الصحافة، لا يمكن.. بل قد يستحيل التوصل إلى «دهاليز» أروقة صناعة القرار، لبناء تحليل سياسي يقوم على معلومة موثقة ذات مصداقية، ليس لها أجندة سياسية خاصة، سوى تحري الحقيقة.. وأمانة العلم، ومصداقية الطرح. المهم، هنا: توفر المعلومة السياسية من مصادر صناعة القرار، مما يمثل اختراقاً معلوماتياً حقيقياً يستند إليه تحليلٌ سياسي ذو مصداقية عالية تعكس سلوك مؤسسات صناعة القرار، من أجل تفسيره واستشراف مخرجاته. كثيراً، مع عدم توفر مثل هذه المعلومة الحقيقية من داخل مؤسسات صناعة القرار، ما يخطئ المحلل السياسي، ليس في تفسير سلوك سياسي معين تجاه قضية ما، لكن قد يَنْجّر إلى أسلوب نقدي أو خطاب تبجيلي، إما مبالغةً في بطولة «عنترية» فارغة.. أو تملقاً ممجوجاً، قد لا يلقى ترحيباً أو رضاء، بل حتى قد يُقابل بامتعاضٍ، من صانع القرار نفسه.. بالإضافة إلى استهجان جمهور المتابعين. على المحلل السياسي الرصين والمحترف، إذا لم تتوفر لديه المعلومة من مصادرها الموثوقة، بعد اجتهاده في الحصول عليها، أن يكون متحفظاً في انتقاء ألفاظه.. وانتقائياً في لغة مقاله، والأهم: يتحلى بالحذر المنهجي المتحفظ عند بناء استنتاجاته. عليه، في كل الأحوال: أن يضع نفسه موقع صانع القرار.. وأن لا ينسى، في كل الأحوال: أن هناك حقيقة غائبة في «دهاليز» أروقة صناعة القرار المعتمة، فرض منطق الدولة عدم كشفها والإفصاح عنها، لأسبابٍ أمنية أو سياسية أو قانونية، أو حتى أخلاقية. هذا المنهج، ليس بدعاً، في أدب التحليل السياسي.. أو العمل الصحفي المحترف. على المحلل السياسي أن يكون همه الوحيد البحث عن المعلومة الدقيقة والصحيحة، حتى لو اضطره الأمر إلى اقتحام ساحة «كواليس» صناعة القرار، خفيةً وتلصصاً.. وأن تكون عنده الجرأة الكافية للبوحِ بأسرارٍ أُريد بها أن تكون سرية. طبعاً: مثل أسلوب «التحري» هذا لا يجب أن يرتبط بأي هوى سياسي.. أو أيديولوجية بعينها.. وأن يكون، في كل الأحوال، محمياً بالقانون، تحت مظلة ممارسة حق التعبير والحصول على المعلومات، التي عادةً ما يكفلها الدستور. التحليل السياسي ليس ترفاً لكل من «هب» و«دب» أن يتصدى لمسؤوليته.. أو يتسلق من خلاله، لخدمةِ أجندته الخاصة، جهلاً أوغباء أوهوىً، أو كلها مجتمعةً. التحليل السياسي «حرفةٌ» عاليةُ المهنية.. جزلةُ الإبداع، تحتاج إلى منهجيةٍ علمية.. وذخيرةٍ معلوماتية.. وخبرةٍ متمرسة، والأهمُ: امتلاكُ أدواتٍ منهجية (كمية ومعيارية) معقدة وحساسة ودقيقة، للتفسير والنقد والاستشراف.