منهجيا؛ تعاني العلوم الاجتماعية، بصورة عامة وبالذات علم السياسة، من مشكلة المتغير الإنساني. عكس العلوم الطبيعية، لا يمكن توفر الحيادية الخالصة والموضوعية الكاملة لدى الباحث أو المحلل للظواهر الاجتماعية لطغيان أو على الأقل تواجد متغير الشخصنة بقوة في الطرح. إلا أن ما قد يميز العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، أن العلوم الاجتماعية أكثر ثراء وغنى من العلوم الطبيعية في ما يخص الاهتمام بحضور، بل أحيانا فرض، المتغيرات القيمية والمعيارية على دراسات العلوم الاجتماعية، بصورة لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها. لكن هذا لا يعني بالضرورة، أن العلوم الاجتماعية، وعلم السياسة بصورة خاصة، تفتقر الموضوعية والحيادية بصورة مطلقة لدرجة الإخلال الجسيم بمنطلقات البحث العلمي الرصين الملتزم بأصول البحث العلمي المرعية في العلوم الطبيعية. هذا لا يتوفر فقط في الاهتمام بالمتغيرات الكمية، الذي كان من أهم إسهامات المدرسة السلوكية التي طغت على مناهج البحث العلمي في العلوم السياسبة منذ خمسينات القرن الماضي، ولا زال الاهتمام بها ممتدا للوقت الحاضر.. بل أيضا، محاولة الالتزام بمنطلقات البحث العلمي الموضوعية والرصينة، بالرغم من طغيان المتغيرات القيمية والمعيارية، وهذا أبرز ما أفرزته مرحلة ما بعد المدرسة السلوكية. في علم السياسة، على سبيل المثال، لتوخي الموضوعية والرصانة العلمية، بالرغم من تحديات المتغيرات القيمية والمعيارية، على الباحث والمحلل السياسي أن يحاول جاهدا التجرد من شيئين، هما من ألد أعداء التحليل العلمي الرصين للظواهر السياسية. الأول: التقييم الأخلاقي للظواهر السياسية. الثاني: إسباغ الهوى السياسي على لغة وأسلوب التحليل السياسي. بمعنى: أن المحلل السياسي والباحث في العلوم السياسية، عليه منهجيا ألا ينظر إلى متغيرات الظواهر السياسية من منظور أخلاقي بحت يجرح في تصديه لدراسة وتحليل المواقف والسياسات والسلوكيات التي تستفزه أو تفرض وجودها عليه للتعامل معها. ومن ناحية أخرى: عليه ألا يفرض قيمه الخاصة به لتعكس ميولا أو توجها يتوخى بواسطته أن يوجه حركة الظاهرة السياسية أو الموقف والتصور السياسي الذي يتصدى لتحليله ليسوقه إلى وجهة هو يأمل أو يتمنى أن ينتهي إليها. بتوفر هذين الشرطين في الباحث أو المحلل السياسي تصير دراسته وتحليلاته أقرب لتفسير الواقع الذي تتفاعل فيه الظاهرة والموقف السياسي الذي يحظى باهتمام العامة والمتخصصين، على حد سواء.. كما يقود تقييمه السياسي الموضوعي للموقف إلى توقع مآلاته السياسية، مما يساعد مؤسسات صناعة القرار على اتخاذ سياسات ومواقف وتدابير تكفل الفاعلية والكفاءة اللازمتين لمواجهة أية تداعيات سلبية، أو الاستفادة من أية تطورات إيجابية للموقف موضوع الدراسة أو التحليل السياسي. علم السياسة، في مجال تحري الموضوعية والبعد عن الأسلوب التبجيلي المبتذل والطرح القيمي والأخلاقي المتحيز على الواقع أحدث تطورا متقدما في الدراسات والتحليلات السياسية شارف أن يرتقي به إلى مصاف العلوم الرصينة في طرحها والأكثر تعقيدا في أدواتها. وهذا ما يجعل المحلل السياسي المحترف يختلف عن المحلل السياسي الدخيل على صناعة التحليل السياسي، حيث يقود الأخير هواه السياسي ونظامه الأخلاقي والقيمي ليدفعاه تجاه صياغة تحليلات والتوصل إلى استنتاجات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تحليلات غير موضوعية مفعمة بمواقف ونزعات ودوافع قيمية ( value laden )، بل ومبتذلة أحيانا، يحاول من خلالها أن يفرض وجهة نظر مضللة، سواء بقصد أو بغير قصد، لا تحمل تصورا واقعيا للموقف، ولا تخدم معالجة رصينة وواقعية وحكيمة لمواجهة تداعيات الموقف الذي فرض وضعه على الساحة السياسية، سواء بمقدمات أو بصورة مفاجئة. كل ذلك يؤدي إلى إحداث تشويش وبلبلة في الرأي العام.. والأخطر: تضليل مؤسسات صناعة القرار، عن المواجهة الفعالة والكفؤة لذلك الموقف أو القضية مثار الاهتمام. في النهاية: لا غنى عن الاحترافية والمهنية في مجال التحليل السياسي، في سوق تكثر فيه البضاعة الفاسدة، التي تفتقر إلى الخبرة والمنهجية العلمية اللازمة، وإلى أدوات التناول الموضوعي والرصين للمواضيع والقضايا السياسية الحساسة. بصورة عامة: القضايا السياسية، لفرط حساسيتها الاستراتيجية ودقة خطورة طبيعتها التوازنية الهشة، لا تحتمل أن يخوض فيها كل من هب ودب، بلا خبرة علمية ولا أدوات متخصصة ولا منهجية موضوعية يطغى عليها الهوى السياسي وتلفها سوداوية النظرة أو تضليل التفاؤل الكاذب والتصور الخادع.