لعل من أهم النتائج العملية للمؤتمر العالمي لمكافحة الإرهاب، الذي عُقد في الرياض مؤخراً، دعوة سمو ولي العهد إلى إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب على المستوى المعلوماتي والعملياتي.. وهذه بداية جادة للتعامل مع ظاهرة الإرهاب بدلاً من الخطاب العاطفي أو الغاضب الشائع في الساحة حالياً.. وهو وإن كان ينفّس عن مكون النفوس (دولة ومجتمعاً وأفراداً)، إلا أنه لا يعالج الظاهرة، ولا يحل المشكلة، وهذا ما سبقنا إليه غيرنا.. فعندما هبّت ريح إرهاب عاتية على الولاياتالمتحدةالأمريكية، سمّيت ب(11/9)، حشدت لها كافة إمكانياتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية.. ولم تكتف بذلك، بل سخّرت العقول ومراكز البحث وأدوات استشراف المستقبل، جاعلة منها أساساً مركزياً للتعامل مع الحدث.. ووجهت مخازن الفكر في سياق جهدها الحربي والاستراتيجي، لفهم ما أصاب بلادهم ومجتمعهم، وشكل الرئيس الأمريكي، بأمر رئاسي، فريقاً من مجموعة منتقاة من أصحاب الرأي والاختصاص يسندهم (84) مساعداً ومحللاً ومستشاراً من مختلف التخصصات، ووضع تحت تصرفهم (2,5) مليون وثيقة، وأجرى الفريق مقابلات مع (1200) فرد من (10) دول، وعقدوا (19) يوماً شهادات استماع، وشهادات علنية ل(160) شاهداً، وأُعطي الفريق مجالاً رحباً وواسعاً وحراً للحركة، وسبيلاً لكل الوثائق والمعلومات التي يطلبونها، وشملت مهمتهم ومجالاتهم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، الدبلوماسية، الجوازات والهجرة، أساليب تحويل الأموال للمنظمات الإرهابية، إجراءات الطيران المدني، توزيع بنود الميزانية العامة للدولة من قبل الجهات التشريعية، وموضوعات أخرى ذات صلة بظاهرة الإرهاب العالمية وعلاقتها بدولتهم. وكان السؤال المطروح عليهم: ماذا حدث؟ وكيف حدث ما حدث؟ وهل كان بالإمكان تجنّب ما حدث؟ وكيف يمكن تجنّب ما حدث مستقبلاً؟ وخرجوا في النهاية بتقرير مفصّل، كُتب بمنهجية علمية واضحة ودقيقة ومباشرة، سُمي بتقرير (11/9)، مكوّن من (567) صفحة، قدّموه للرئيس، وقَبله كاملاً، وتبنّى جميع التوصيات الواردة فيه كسياسة وإجراءات مُعلنة للدولة للتعامل مع الإرهاب، واعتمد (الكونغرس) المبالغ اللازمة لتفعيل توصيات التقرير. هذه مقدمة ضرورية للقول بأهمية دعم دائرة القرار المحيطة بصانع القرار في بلادنا ببيت خبرة استشارية من خيرة عقول هذه البلاد، علماً وخبرة وتأهيلاً وتخصصاً، للتعامل مع قضايانا المحلية والدولية، إذ ليس بخاف أن المملكة تواجه هجمة إعلامية وثقافية وسياسية شرسة، تستهدف الدين والقيادة والوطن والثوابت والهوية، كما تعيش وسط أجواء إقليمية مضطربة، فضلاً عن قضايا وشؤون محلية ضاغطة، فرضتها طبيعة المرحلة، أو طبيعة الأحداث الجارية في المنطقة، جعلت المملكة تمر - الآن - في مرحلة من أدق مراحل تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ربما منذ تكوينها على يد المؤسس - المغفور له - جلالة الملك عبدالعزيز، الأمر الذي يتطلّب مواجهة حكيمة، ومعالجة برؤية علمية شمولية، ومنهجية واضحة، وروّية وبُعد نظر. إن الاستعانة بالخبراء والمتخصصين تقليد اختطه ودرج عليه مؤسس هذه البلاد - رحمه الله - عندما استشعر بفطرة قائد الحاجة إلى اصطفاء مجموعة متفرغة متخصصة تُعينه في صياغة القرارات المصيرية في شؤون البلاد والعباد، ولم يجد غضاضة عندما عزّ وجود المواطن المؤهل أن يستعين بغير المواطن، وأحياناً غير المسلم، علماً بأن الأمور والقضايا، في ذلك الوقت، لم تكن بالتعقيد والتشابك التي هي عليه في وقتنا الحاضر. والبلاد وهي تواجه ظروفاً داخلية وخارجية بالغة التعقيد والخطورة، تفتقر، شأنها شأن كثير من الدول، إلى إحدى الأدوات الحضارية المهمة للتعامل مع هذه المتغيرات، وهي وجود مجموعة معتبرة من الأشخاص المؤهلين المتفرغين، قادرة على إبداء المشورة العلمية السديدة، وإسداء الرأي الصائب، وتقديم الخبرة المتخصصة، وإعداد التقارير المعمّقة، وإيصال المعلومة الناجزة، بشأن جملة من القضايا الوطنية الكبرى التي تواجه البلاد، في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليستفيد منها ولاة الأمر عند صناعة القرارات المصيرية ذات التأثير العميق في سياسة الدولة وحياة المواطنين، على غرار ما هو حاصل في الدول التي تقدمتنا في هذا المجال، حيث تبنّت أفراداً ومجموعات، اصطفتها للمشورة والرأي والتحليل والتخطيط واستشراف المستقبل، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وهو ما أُصطلح عليهم بمخازن الفكر، والمؤسسات الحاضنة لها مثل: (روكفلر، فورد، رند، كارنيجي، مجلس العلاقات الخارجية، بروكينجز، جماعة المشروع الأمريكي)، حيث تُنفق عليها الدول بسخاء، وتُفرّغها لمهمات الدراسة والبحث والتحليل في شؤون الدولة، ذات الأهمية الاستراتيجية، في ضوء المتغيرات الحاصلة في الداخل والخارج، وعلى أساس معلومات موثقة، وأبحاث علمية رصينة، وإحصائيات دقيقة، ورصد إعلامي شامل، ومتابعة للأحداث. وتُعد هذه المجموعات - باستمرار - تقارير عن الأوضاع، وترصد التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتحلل اتجاهات الرأي العام، وتُراقب توازن القوى الاجتماعية المتحركة والساكنة والمتعارضة، مع قدرة فائقة على إعداد مشاهد (سيناريوهات) سياسية واجتماعية واقتصادية للدولة قبالة كل احتمال، كما تهتم تلك الدول، عبر هذه المجموعات من المؤهلين والمتخصصين، بعقد وحضور الندوات والمؤتمرات والحلقات العلمية في الجامعات ومراكز الأبحاث والمشاركة الفاعلة فيها.. وعلى أساس ذلك يتم تقديم الرأي والرؤية والمشورة، ووضع الخطط الاستراتيجية لجميع الاحتمالات التي يمكن أن تواجه الدولة في أي من المجالات الاستراتيجية، ثم تعرض تلك المجموعات المفكّرة ما لديها من صُناع القرار في بلدانهم، ويتبنونها سياسة عامة، بعد أن يتم انضاجها من قبل أصحاب العقول والفكر والخبرة، كل في مجال تخصصه. هؤلاء الخبراء يقومون بدراسة كافة الاحتمالات والتطورات الممكنة، ويقدّمون مختلف التصورات، ويعرضون طيفاً واسعاً من المقترحات، في محاولة مستمرة للتوفيق بين الممكن والمحتمل والمستحيل، في ضوء المعطيات والحقائق والمعلومات المتوفرة لديهم.. وكم من مرّة نؤخذ على حين غرّة بهذه التقارير والمعلومات والرؤى، وبقدرتها الفائقة، نوعاً وكماً، على الوصف والتحليل والاستنتاج، وتعلونا الدهشة لهذه الجاهزية، والتوقيت المناسب، والسرعة التي تُقدّم المعلومات والرؤى للسياسيين ووسائل الإعلام.. ونستغرب ذلك - وقد نتهمهم بالتآمر علينا - لأننا ببساطة لا نتوفر على هذه الأدوات الحضارية والفكرية التي تفكر وتبحث وتحلّل، بحرية وهدوء، وبشكل مستمر وتراكمي، وتُقدّم منظومة متوازنة من الرؤى الشمولية للسياسيين.. حتى إذا وُجد شيء من ذلك فإنه يظل الاستثناء، وغالباً ما تكون البنية الاستشارية وطبيعتها مبنية على الثقة الشخصية أكثر من الجدارة والخبرة والتخصص، وضمن دائرة محدودة، ناهيك عن أن الاستشارة والرؤية التي تُقدم لصانع القرار تعكس وجهة نظر أحادية لجهة بيروقراطية في جهاز الدولة التي ينتمي لها مصدر الاستشارة، أكثر من كونها رؤية علمية حرة مدروسة نابعة من رؤية شمولية واستراتيجية، ومجالها الوطن بكل رحابته. إن البلاد في حاجة ماسة - الآن - وفي ظل الظروف القائمة، إلى تفعيل دور مركز الدراسات الاستراتيجية، ومجلس الأمن الوطني، أو تكوين هيئة استشارية مرتبطة بولّي الأمر مباشرة، عبر استقطاب نخب متميّزة من المؤهلين من شباب الوطن، ومن تخصصات مختلفة في الشريعة والسياسة والاجتماع والتربية والاقتصاد والإعلام والأنظمة والصحة والعلوم والمعلوماتية والتنمية والموارد البشرية، وتكون هذه المجموعة من المستشارين متفرّغة، ومهمتها: 1) تقديم المعلومة والرأي المستقل والطروحات المستنيرة في مجال تخصصها.. 2) تقرأ وتلخّص وتستنتج وتستقرئ وتبحث وتستشرف المستقبل. 3) ترصد وتتابع ما يجري من أحداث في الداخل والخارج. 4) تُقدّم التقارير وتُحدّث المعلومات ذات الصلة، وتشارك في المؤتمرات والندوات الحلقات العلمية المحلّية والعالمية. إن الدولة تواجه قضايا ومسائل ومشكلات مصيرية في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني مثل: الإصلاح بكافة أشكاله وصوره ومجالاته، الإرهاب المحلي والدولي، التطرّف، الغلّو، الدّين العام، المشاركة الشعبية، الشفافية الإدارية والمالية، الحيوية السياسية، حقوق الإنسان، الحريات العامة، التنمية، البطالة، تآكل الطبقة المتوسطة، العولمة، الفقر، قضايا الشباب باعتبارهم أكبر شريحة سكانية في المملكة، قضايا المرأة، بعض المشكلات الاجتماعية الضاغطة، السياحة والآثار، مشاكل وأزمات الحج، التعليم والمناهج، العنف الأسري، عنف المدارس، المخدّرات، الجريمة والانحراف، العمالة الوافدة والسعودة وتوطين الوظائف، الإسكان الميسّر واليسير للطبقة المتوسطة وما دونها، برامج الرفاه الاجتماعي الحكومية، شح المياه الإصحاح البيئي، الأمراض الوبائية والمستوطنة، الفجوة الرقمية، توزيع خدمات الدولة مناطقياً ومعالجة اختلالات توزيع الخدمات، التنمية، التوازن المناطقي، الرسوم والخدمات، الإعاقة، غلاء المعيشة، الإعانات والدعم الحكومي، المواطنة والهوية، انخفاض مستوى الدخول، السياسة الخارجية، المشاكل الحدودية، قضايا العمل الخيري والجمعيات الخيرية في الداخل والخارج، العمل الدعوي في الخارج مقابل الانكفاء على الذات، الإعلام الداخلي والخارجي وصورة المملكة في الخارج.. وغيرها كثير من القضايا التي لم يُعد كافياً فيها الاجتهادات الفردية أو العفوية، أو ردود الأفعال، بل تحتاج إلى فكر وخبرة وتخصص وتفرغ ومتابعة، لكي تُعين ولي الأمر على صياغة سياسات وأهداف وقرارات مستنيرة، ومحققة للمصلحة العامة والعليا للوطن، في هذه القضايا وغيرها، بأقل قدر من الآثار والتبعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لعل مهمات بهذه الخطورة والحيوية، وموضوعات بهذا القدر من التنوع والتأثير المباشر في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وفي سياق موقع المملكة وأهميتها الإقليمية والدولية.. لا بد أن يضطلع بها، وبشكل مؤسسي، نخبة مُصطفاة، متفرغّة من المتخصصين والمتميزين، في المجالات التي يحتاج فيها ولاة الأمر إلى استشارة متخصصة، ليبني عليها قراراً سياسياً أو سيادياً، أو سياسة عامة للدولة، أو أموراً تهم المواطن، وتؤثر عليه في حياته ومعيشته، ومستقبله ومستقبل الأجيال القادمة. وينبغي في عضو المجموعة أن يكون من المشهود له بالولاء والتوازن في الشخصية، والواقعية في الطروحات والآراء، وعلى جانب من سعة الأفق، والقدرة على النظرة الشمولية، هذا فضلاً عن ضرورة التخصص والتميّز العلمي، وتوفر الخبرات العملية، والقدرات التحليلية، وإجادة بعض اللغات الأجنبية. إن بُنية استشارية بهذا التصور والطموح قد يستغرق تكوينها بعض الوقت، ولكنها ضرورة ملحة، واتجاه علمي سليم، ما أحوج الوطن إلى البدء في تأصيله من الآن، حتى تتجنب البلاد سلبيات الإدارة بالأزمات، والمعالجات عبر ثقافة «الحملات»، وردود الأفعال، والمعالجات الوقتية والجزئية، أو العاطفية والغاضبة، تجاه القضايا الضاغطة والحساسة التي تواجه المملكة..