ذهب آخر آبائي لنزهته الخالدة في رحاب الغفور الرحيم، ودّع دنيانا بالأمس، قبل أنْ أفِي بوعدي وألقاه. والدنا محمد بن صالح الشيبة آل سدران اليامي -يرحمه الله-، الشّهم الذي عاش حياة لا مثيل لها وغادر كاعتذارات النبلاء. عن الرجل الذي كان أكثر الناس ثباتاً في المواسم الجافية، أحدّثكم. عن أوفر الناس رحمةً وعطفاً عندما يكلّسهم الترْكُ والنسيان. مذ عرفته وهو يدعو لي دعاء الخاشع، ويفرحُ من أجلي كواحدٍ من أولاده، ثم يتغافل عن 50 سنة بيننا؛ فيمازحني ويصرّ عليّ بكل مرّة أنْ أُعيد إليه المُزاح، كما لو كنتُ رفيقاً قديماً قضى معه سنين المسرّة الأولى التي تغفر ما بعدها. أشركني في أسماره الخاصّة مع أبنائه، قُدّام نارهِ وبين يديّ القمر والمزرعة، وجعلنا -هو وأنا- فريقاً واحداً يهاجم من تبقى في السمر، كُرماً لتجلّيات المودة الشفيفة ولا غيرها. حدَّثَني باسترسالِ المُحبّ المُستأمن عن مغامراته ورحلاته الباهرة التي اخترق بها خاصرة الزمن القاسي، من نهاراتهِ الحارقة في صحاري الربع الخالي شرقيّ نجران، حتى لياليهِ الغارقة في المُلوحة والغُربة أقصى الكويت، وأودعَ قلبي سيرته الملحميّة المدحيّة بالنُبل والمأساة. وبلى، شرّفني في آخر سنوات حياته بصُحبةٍ لا أستطيع وصفها ولا بلوغ مكانتها. ومثل الجوائز الكبرى، لا يُمكن أنْ تتكرّر في عمري مرتين. لقد أصابني بجَمالهِ، وأهداني ذكرياته وبعض أسراره، وعتابه.. آه، عتابه الذي يمرّ في حلقي كصخرةٍ مسنونة الأضلاع، بعد أنْ أطلتُ عليه، وابتعدتُ عن زيارتهِ وبيتهِ وإجابةِ دعواته؛ بسبب انتقالي للرياض قبل ثلاث سنوات. وعدتهُ في آخر اتصال أنْ أزورهُ بعد أنْ أبكاني ضحكاً من سخريته على تغيّر أحوالي وانتقالاتي. وها أنتَ اليوم تُبكيني يا أبا راشد، على غير عادتك. إنّها المرّة الأولى التي أذرفُ الدمعَ عليكَ لا معك، جعلتني أبكي منك حزيناً لا ضاحكاً، لقد كانت المرّة الأولى، والمرّة الأخيرة. لن يتركني هذا الشيخ النبيل أبداً، هذا ناموسه الذي اصطفاه لمن يحبّهم، لقد تركَ لي عزاءً لائقاً، ولكلّ من عرفوه وأحبّوه، تركَ لنا أولادهُ الكِرام، راشد وعليّ وصالح وعامر وعبدالرحمن، إخوتي الذين أرى في عين كل منهم شيئاً من فقيدنا الكبير، ويذكّرني بلمحةٍ مُشعّة من روحه المُذهلة. لن أنساه ما حييت، وسأضمّه لخزانة أحزاني الأبديّة، التي بناها الدهر في جبهتي، لا ينتبه لها العابر، وأحملُها في وجهي كعلامة فارقة كيلا تضيعُ في طرقاتِ القدر وأزقّة الأيام. أمّا أنتَ أبا روز، صالح الأعزّ، فأعرفُ أنّك الآن تحدّق في هوّة لا تردمها الكلمات. وأعرفُ أنّك تبحث عن حكمة الرثاء المفقودة، وأنّك مثلي يا شقيق الروح، تفتّشُ عن بريد العدم. وما عساي أقول لك؟! ليس معي لهذا اليوم عُدّة، ولا أتذكّر من الدنيا وأنا أشاهد عينيك، إلاّ نظرتك صوبي يوم مات أبي قبل سبع سنوات، تلك النظرة التي تنحدر من قلاع الحبّ والتضحية، لكّنها خالية من كلّ حيلة في العزاء. ليس معي عُدّة لهذا اليوم أقابلك بها، وليس معي سوى نظرتك إيّاها، وأنْ أقف جوارك وأنا أهجسُ: ها نحنُ، نتدرّب على مهنة اليتامى الأزليّة، نعدّ أسنان العالم! ومن يدري يا صاحبي، قد نشبههم. قد نحيا حياة لا مثيل لها، وقد نرحل كالاعتذارات، لكنّ الأكيد بأنّنا سنمضي في رُفقتك الغالية، وبأسمائهم اللامعة سنضربُ جدار الوقت الذي يفصلنا عنهم، سنضربُهُ بكلّ ما أوتينا من شوق وشجن، حتى نَصلُ رِحابَهم، والمطر، والمُزاح.