سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان تجسيداً مدهشاً لعبقرية الاهتمام التلقائي
نشر في الرياض يوم 20 - 10 - 2013

إن طبيعة الإنسان التلقائية تجعله محكومًا بقانون القصور الذاتي (قانون العطالة) فلا بد من عامل محرِّك يستثير تفكيره ويخرجه من الدوران التلقائي فالتفكير يبقى يدور في اللاشيء مستغرقًا في وعي اللحظة حتى يستثار بشيء مستفز يخرجه من السلبية إلى الفاعلية، إن العقل يظل منشغلاً تلقائيًّا بتتابع اللحظات فلا يتجاوزها حتى يستثار فلابد من مثير يحركه، فالإنسان ينفعل بالمؤثرات وتحركه الحاجات وتستفزه التحديات وتستنفره الصراعات ويدفعه الهروب من المنغِّصات ويجذبه السعي للملذات إنه محكومٌ بعاطفة الحب والكُرْه فهو يستجيب لما يَعْرض له بالسلب أو الإيجاب ولكن استجاباته لهذه المحركات محكومة أيضا بما تبرمج به تلقائيًّا فهذا التبرمج هو الذي يحدِّد تلقائيًّا نوع الاستجابة واتجاه النشاط فالعقل يحتله الأسبق إليه ومن هنا يأتي عُقم التعليم القسري وكلال التعلُّم الاضطراري مقابل قوة التمثُّل المعرفي أو التدفُّق الإبداعي حين يتوقد الإنسان تلقائيًّا من داخله...
كانت أفكار «تيسيلا» الإبداعية تستغرقه كل الاستغراق وتصاحبه بقوة في صحوه ونومه فيبقى مأخوذاً بها ولا يستطيع الإفلات من توقدها، فكان يعيشها طول وقته وتظل معه في فراشه فلا يستطيع التخلص من غليان الفكرة المهيمنة
إن التمثُّل والتدفُّق محكومٌ بتوقُّد الإنسان من داخله استجابةً للإثارات الآتية من خارجه فالاستيعاب السهل والفهم السريع أو البصيرة الخارقة أو الانبثاق الإبداعي أو اكتساب المهارة العالية كلها مرتهنة بانفتاح القابليات تلقائيًّا وبتوهُّج الإنسان من داخله إن الفهم والاستيعاب والتشبع بالمعرفة والامتلاء بالمهارات. إن هذه كلها مرتبطة بانفتاح القابليات وهذه ليست خاضعة تمامًا للإرادة القصدية الحرة وللتحكم الإرادي وإنما هي تنفتح أو تنغلق وفقًا لدرجة الانجذاب وقوة الاهتمام التلقائي. إن هذا الانفتاح أو الانغلاق يحدث تلقائيًّا مثل حدوث النوم أو الخوف أو الخجل أو الغضب أو القلق أو الضحك أو غير ذلك من الاندفاعات التلقائية التي لا تخضع للتحكم الإرادي لذلك لم يبدع في كل المجالات إلا الذين تشتعل نفوسهم باهتمام تلقائي قوي مستغرق...
إن الانغلاق المستحكم في حالة النفور ليس اختيارًا ومثله الاهتمام التلقائي المتأجِّج ليس اختياراً وإنما هو اندفاعٌ متدفق كاندفاع المياه في المنحدر أو اندفاع الحمم من البركان أو انتشار الحرارة من اللهب أو فيضان الضوء من الشمس، فمثلما ان الغضب يجتاح الإنسان رغمًا عنه فكذلك الاندفاع نحو التعلُّم أو نحو العمل أو نحو الإبداع إنها ثمرةُ الشغف المتأجج والرغبة الفائرة والاندفاع التلقائي وبالمقابل فإن النفور من التعليم القسري أو التعلُّم الاضطراري هو نفورٌ تلقائي تنغلق به القابليات فيصبح التعليم معاناة قاسية خانقة فيأتي المحصول بعد المكابدة سطحيًّا وموقتًا وسريع الانمحاء...
ولأن الاندفاع يثور تلقائيًّا حين يتعرَّض لاستنفار فإن الكثير من المبدعين كانوا يستنزفون طاقتهم ويُنهكون صحتهم ولا يستطيعون التمهُّل مهما كانت التحذيرات الطبية فالمبدع وهو يواصل العمل لا يستطيع الاسترخاء أو الكف أو الانصراف فقد ينهاه الأطباء عن الإجهاد ولكنه يظل مندفعًا في الكتابة أو العمل الإبداعي أيًّا كان مجاله وقد يموت مبكرًا بسبب الاستنزاف لكنه يبقي خالد الذِّكْر وهذا هو ماعناه جيمس راسل لويل حين كتب يقول: ((إن الموهبة هي ما يوجد في قبضة الإنسان أما العبقرية فهي ما يقع الإنسان في قبضته )) بمعنى أن تأجُّج الرغبة في أعماق أي إنسان لابد أن يدفعه رغمًا عنه لتحقيق الهدف الذي يشغل ذهنه وإنجاز العمل الذي يلحُّ عليه فيبقى يواصل العمل مهما كان الهدف بعيداً ومهما كان الجهد شاقًّا ومهما كانت المحاذير والمخاطر فإذا كانت النفوس كبارًا تعبتْ في مرادها الأجسام...
إن (لويل) يُفَرِّق بين الموهبة والعبقرية، وكذلك آخرون يرون هذا الرأي لكني أعتقد أن العبقرية ناتجةٌ عن إثارة الموهبة واستنفارها فالموهبة قد تبقى كامنة وغير معروفة حتى لمن هي في أعماقه لأنها غير مستثارة ومن هنا يأتي النبوغ المتأخر فقد تمضي السنوات من عُمر الشخص ويبقى يجهل موهبته ثم يتعرَّض لأزمة أو مشكلة أو موقف استثنائي تتحرك به الموهبة فتتدفق إبداعًا وبذلك يصير نابغة فليست العبقرية شيئاً مغايرًا للموهبة وإنما هي الموهبة حين تستثار وتتوقَّد فهي حين يجري استفزازها وتلتهب فإن الإنسان يصير محكومًا بها وليس حاكمًا لها فموهبة دانتي استنفرها الحب وألهبها الحرمان فأثمرت إبداعًا عبقريًّا مازال العالم يقف مبهورًا أمامه إن دانتي لو لم تجتحه عاطفة الحب المتأججة المقموعة لبقي مجهول الموهبة ولبقيت عبقريته كامنة لأنها لم تتعرض للإثارة والاستنفار...
إنني أكتب هنا عن عبقرية تأججت ليس في مجال الشعر أو الفن وإنما في مجال العلم والاختراع، فلقد كان نكولا تيسيلا تجسيداً مدهشاً لهذه العبقرية المتأججة وقد كان تأجُّجًا منتجًا وخارقًا فحين قرأت سيرته وتعرَّفت على فوران طاقته وأدركت عظمة إبداعاته وتنوع أفكاره وجدتُ أنه ليس فقط تجسيداً لعبقرية الاهتمام التلقائي وإنما هو أيضا نموذجٌ رائع للريادة الفردية الخارقة وكما يقول بهريند:((لو قمنا بمحو وإزالة نتائج أعمال نيكولا تيسيلا من عالم المعرفة لتعطلَتْ عجلات الصناعة وتوقفت سياراتنا وقطاراتنا الكهربائية ولكانت المدن والبلدات النائية مظلمة تماماً ولأصبحت طواحيننا جامدة دون حراك)) إن بهريند الذي كتب هذا النص الحاسم يتحدث من داخل المجال فهو مهندس كهرباء ومؤلِّفٌ بارزٌ مهتمٌّ بالطاقة...
كانت أفكار تيسيلا الإبداعية تستغرقه كل الاستغراق وتصاحبه بقوة في صحوه ونومه فيبقى مأخوذاً بها ولا يستطيع الإفلات من توقدها فكان يعيشها طول وقته وتظل معه في فراشه فلا يستطيع التخلص من غليان الفكرة المهيمنة فلا يستجيب له النوم إلا بعد عناء شديد وهذا شاهدٌ من بين شواهد كثيرة على صدق مقولة جيمس راسل لويل بأن العبقرية هي مايقع الإنسان في قبضته إنه اندفاعٌ تلقائي غير محكوم بالإرادة وقد أدى ذلك إلى إصابته بانهيار عصبي وهذه الظاهرة شائعة في حياة الكثير من المبدعين في مختلف مجالات العلم والفن والإدارة والقيادة والعمل...
كان المخترع الشهير أديسون قد توصَّل إلى توليد الكهرباء من التيار المباشر ولكن هذا التيار يتضاءل كلما طالت المسافة وقد مثَّلَتْ هذه مشكلة كبيرة لأن المقاومة تتعدَّد مصادرها فيصير الفقْد شديدًا فتوصل تيسيلا إلى فكرة التيار المتردد وهي فكرة عظيمة خارقة لكنها حصلت بعد أن أتم أديسون إنشاء أول محطة لتوليد الكهرباء في العالم وكانت تعتمد التيار المباشر وكان التحول من التيار المباشر إلى التيار المتردد يؤدي إلى تحميل اديسون خسارة كبيرة وتكاليف باهظة لذلك تسببت هذه الفكرة في حدوث خلاف شديد بين تيسيلا واديسون انتهت بقطيعة تامة مشحونة بالمرارة الحارقة لكل منهما إلى درجة أن اديسون رفض جائزة نوبل في الفيزياء التي مُنحتْ له مناصفة مع تيسيلا فقد كان اديسون ينظر إلى تيسيلا كواحد من العاملين معه وليس منافسًا له فأصيب بما يشبه الفجيعة...
كان ابتكار إديسون للمصباح الكهربائي إنجازًا مدهشًا ثم أتْبعه بإنشاء أول محطة في العالم لتوليد الكهرباء فلم يكن مستعدًّا نفسيًّا لتقبُّل أي إرباك لهذا الإبتهاج ولكن التغيير الجذري الذي اقترحه تيسيلا كان قاصمًا فهو كمن يخطف العروس من العريس في شهر العسل وكما يقول البرفسور ألان راو في كتابه ( الذكاء الإبداعي ) : (( بعد أن أتمَّ اديسون بناء المحطة بوقت قصير تم التوصل إلى توليد الكهرباء من التيارات المتعاقبة التي جعلت توليد الكهرباء من التيارات المباشرة عديم الفائدة وتوفي اديسون متحسِّرًا إثْر ذلك )) لقد كانت نهاية محزنة لكل منهما مع أنهما من أمجد الأفراد الذين أنجبتهم الإنسانية خلال العصور...
إن إديسون وتيسيلا كليهما شديدا الاعتداد بنفسيهما، وكلاهما يتسم بالعناد والإصرار ولا يطيق الهزيمة لذلك فإن المعركة بينهما قد تجاوزت المجال التقني وصارت قضية كرامة وشرف بمعايير النصر والهزيمة فواصلا النزاع حتى النهاية فماتا في حسرة وألم فليس أفظع من خصومة الأصدقاء حين يصيرون أعداء...
لم يكن إديسون وهو صاحب الابتكارات المذهلة قادرًا بأن يرى واحدًا من الذين كانوا يعملون في ورشته يرتقي إلى مستوى ند قوي قادر على هزيمته فقد كابر في البداية في أن يقبل فكرة تيسيلا عن التيار المتردد ولكن تيسيلا كان يدرك أن فكرته عظيمة وأنها غير قابلة للدفن ولم يكن من النوع الذي يقبل التهميش فصار يبحث عن مستثمر يتبناها فكان ذلك المستثمر هو وستنجهاوس فطار صواب إديسون...
إن فكرة التيار المتردد التي بزغت فجأة في عقل تيسيلا كانت اختراقاً مدوِّيًا وهي مثال مدهش للحدس المفاجئ الخارق والبصيرة النافذة المذهلة وكما يقول هارلاند مانشبنتر: ((كان تيسيلا يتمشَّى في الحديقة مع صديقه زيجي وكان صديقه يرعاه في نقاهته من انهيار خطير أصابه بسبب الإرهاق ثم توقَّف فجأة وأخذ يُحَدِّق أمامه كمن رأى شيئاً عجيباً ثم صاح قائلاً : لقد وجَدْتُها بعد ست سنوات وجَدْتُها.. لقد نجحتُ في النهاية أُنظُر: أقْفل المفتاح ثم اعكسه: يَسْري التيار في كلتا الحالتين ولا تظهر شرارة لعدم وجود عاكس ولا موجب
لوجوده ..)) هكذا هو الحدس الخارق يقفز فجأة وينجلي شاخصًا أمام صاحبه ولكنه لا يفعل ذلك إلا بعد انشغال طويل واختمار شديد واهتمام قوي مستمر مستغرق...
إن الاختراقات العظيمة التي تتكوَّن في الخيال قبل أن تتجسَّد في الواقع تؤكد الضرر الماحق الذي يُلحقه التعليم القسري بالدارسين إنه يُنمط التفكير ويُغلق منافذ الخيال، ولقد كان تيسيلا من ذوي الخيال الخارق لذلك فإن ستيفن ينكر في كتابه (الغريزة اللغوية) قد أورد اسمه مقرونًا باسم آينشتاين وفراداي وماكسويل وفريدريك كيكولي وجيمس واطسون وفرانسيس كريك وإرنست لورنس .. وكلهم من أفذاذ العلماء إنه يورد هذه الأسماء لإيضاح أن: (( كثيرًا من المبدعين لم يكونوا في أكثر اللحظات الملهمة في حياتهم يفكرون باستخدام كلمات بل إن أفكارهم كانت تتمثَّل في خيالات عقلية)) فيذكر الإنجاز الخارق لكل منهم ثم يقول: (( جاءت كل هذه الإنجازات لهؤلاء على صور تخيلات ويُعَدُّ ألبرت آينشتاين أشهر من وصف نفسه بأنه مفكر متخيِّل)) ويتكرر الاستشهاد بهذه الأسماء في الكتب التي تتحدث عن الإبداع والمبدعين لتؤكد دور الخيال ولتقدم أمثلة من انبثاق الحدس الخارق...
لقد كان تيسيلا صاحب عقل جبار لكن تداخَلَ إنجازه مع إنجازات أديسون فحَجَبَه، إن شهرة إديسون الغامرة قد ملأت الذاكرة البشرية في مجاله فلم تترك مكانًا لمنافسه العظيم وهذه الظاهرة معهودة في التاريخ البشري حيث يستأثر الأكثر حضورًا بكل الشهرة فيغيب من كان يستحق أيضا أن يكون حيًّا في الذاكرة الإنسانية، فإديسون وتيسيلا كلاهما يستحق المجد الذي حققه بجهده وعبقريته واندفاعه التلقائي القوي المستغرق لكن كان حضور إديسون غامرًا أما تيسيلا فقد ظل محجوبًا بطوفان شهرة إديسون...
إن شخصية إديسون تختلف عن شخصية تيسيلا اختلافًا حادًّا فالأول يجتهد كل الاجتهاد لإيجاد وسيلة قابلة للبيع والتسويق إنه يجد المتعة في إنجاز مخترعات ذات نفع مادي إنه يستمتع بالإنجاز لكنه يبحث عن الربح.. أما تيسيلا فلم يكن يعنيه الكسب المادي وإنما كان كل اهتمامه يتركز في متعة الإنجاز ذاته إنه مستعدٌّ للتخلي عن كل المكاسب المادية في سبيل أن يتفرغ لإنجاز فكرة جديدة قد استحوذَتْ على ذهنه واستغرقت كل اهتمامه لذلك جازف بالخصومة مع إديسون كما أنه لم يستطع الاستمرار مع وستنجهاوس إنه حادُّ الطبع وشديد الاعتداد بنفسه فلا يستطيع المهادنة حتى لو وجد نفسه ملفوظًا ومستبعَدًا من مجالات العلم إنه رهين غليان الفكرة وليست الفكرة رهينة له فهو في قبضتها وليست في قبضته إنه يندفع رغمًا عنه إنه النموذج الأروع للاندفاع التلقائي نحو العمل والإنجاز والإبداع لكنه لم ينل مايستحق من الشهرة لشدة اعتداده بنفسه حتى وصفوه بأنه متعجرف فالناس ينفرون من الذي يُظهر امتيازه أو يفضح غباء غيره...
إن المهتمين والباحثين والمتابعين هم الذين بقوا يعرفون المكانة العظيمة والعبقرية الباهرة لتيسيلا وكما يقول هارلاند مانشستر في كتابه (حَمَلة مشاعل التكنولوجيا): ((يُعتَبر نظام القوة الكهربية تذكارًا رئيسيًّا خالدًا للرجل الصربي القوي المتعجرف (تيسيلا) الذي حباه الله منذ ولادته بهبات علوية غريبة وكان الدويُّ لاكتشافاته يُذَكِّر بفكرة أفلاطون عن الملاك الحارس الذي يوجِّه أيدي وعقول البشر المختارين)) أجل لقد كان تيسيلا صاحب عقل خارق وكان من أبرز الأفذاذ الذين امتدَّ نفعهم إلى كل الدنيا ومع ذلك عاش عليلاً ومات فقيرًا وكما يقول الكسيس كاريل الحائز على نوبل في كتابه(الإنسان ذلك المجهول ): ((إن الفنانين ورجال العلم يزودون المجتمع بالجمال والصحة والثروة وهم يعيشون ويموتون في فقر في حين ان اللصوص يتمتعون بالرخاء)) إنها الفاجعة المتكررة على مر العصور...
ولم يكن اكتشاف وابتكار التيار المتردد هو الإسهام الوحيد لتيسيلا وإنما اكتشف الطاقة الحرة مؤكِّدًا إمكانية الإمداد بالطاقة من الفراغ من المجال الجوي (الحقل) يقول نيكولا تيسيلا: ((الطاقة الكهربائية موجودة في كل مكان وبكميات غير محدودة بحيث يمكنها تشغيل محركات العالم في أي مكان وزمان بدون الحاجة للفحم أو النفط أو الغاز أو أي وقود آخر إن هذه الطاقة الجديدة التي سَتُشَغِّل محركات العالم يمكن استخلاصها من الحقل (الفراغ) الذي يحرك الكون بأكمله ويُسَمَّى الطاقة الكونية)) ولم يكن هذا القول مجرد حدس خارق وإنما قام بتجارب أثبتت إمكانية توفير الطاقة من الفراغ وكما يوضح علاء الحلبي في كتابه (الكهرباء الأثيرية) بأن تيسيلا أثبت نظريته عمليًّا بإنشاء محطة (واردن كليف) في نيويورك وأنه أثبت إمكانية بث الكهرباء لاسلكيا.. فمن يرغب في التفاصيل سوف يجدها في هذا الكتاب كما يشير الحلبي بأن تيسيلا سار على نهجه مخترعون آخرون وأثبتوا صحة نظرياته فهو صاحب مدرسة في هذا المجال...
وأختم المقال بما كتبه عالم الفيزياء الأمريكي ميشيو كاكو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء النظرية في كتابه(فيزياء المستحيل) حيث يقول: ((برهن تيسيلا صاحب فكرة التيار المتردد على أن طُرقه أفضل بكثير من أديسون وأنها تفقد طاقة أقل مع المسافة واليوم فإن العالم بأكمله مكهرب على أساس براءات اختراع تيسيلا وليس إديسون، يبلغ عدد اختراعات وبراءات اختراع تيسيلا أكثر من سبعمائة وتحتوي بعض أهم العلامات الفارقة في تاريخ الكهرباء الحديث)) ثم ناقش كاكو نظرية تيسيلا عن(الطاقة من الفراغ) وانتهى من المناقشة إلى القول: ((وتبقى الطاقة السوداء أحد الفصول العظيمة غير المنتهية في العلم الحديث)) فالطاقة الحرة على المستوى الكوني هائلة لكنها على الأرض رغم أن وجودها مؤكَّد إلا أنها ليست معروفة معرفة كافية تتيح تسخيرها فكما يقول كاكو: لا أحد يعلم كيف يحسب هذه الطاقة أو من أين تأتي)) لكني أعتقد أن العلم بتطوراته السريعة الخارقة ربما لن يتأخر كثيرًا في تحقيق حلم تيسيلا في الإمساك بالطاقة الحرة التي لا تنضب...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.