من الكتاب الذي وضعه المؤرخ السعودي عبدالله محمد السيف حول حياة الدبلوماسي والسياسي ناصر حمد المنقور تحت عنوان «أشواك السياسة وغربة السفارة» (دار جداول/ بيروت/ 2015)، ومن مصادر متنوعة أخرى كمقالين نشرتهما له صحيفة الاقتصادية (10 و11 أبريل 2012)، ومما تختزنه ذاكرتي الشخصية، سنتحدث في الأسطر التالية عن مسيرة وحياة عبدالرحمن أبا الخيل ثالث وزير للعمل والشؤون الاجتماعية في تاريخ السعودية وسفيرها السابق إلى مصر. ولد عبدالرحمن أبا الخيل في عنيزة سنة 1925 في ظروف اقتصادية صعبة، ابناً للثري عبدالله المنصور أبا الخيل وزوجته حصة عبدالله البسام، ونشأ في منزل أخواله من آل البسام في عنيزة التي درس أيضاً في كتاتيبها ومدرستها الأولى (أنشئت عام 1937). أما الأب فقد كان كأجداده الذين اختاروا التنقل ما بين القصيم والعراق للتجارة، فكوّن أسرة هنا وأسرة هناك شأنه في ذلك شأن الكثيرين ممن كانوا يغيبون عن وطنهم الأم لأشهر طويلة. بعد فترة من الدراسة في عنيزة وتلقي العلم على يد مربيها الأشهر صالح بن صالح، قرر عبدالرحمن أن يتوجه إلى البصرة حيث كان والده، وهناك ألحقه الأخير بمدرسة «النجاة الأهلية» في الزبير التي تلقى فيها العلم على يد نخبة من المدرسين الأجلاء، وصار بعد حين مؤهلا لممارسة مهنة التعليم، فعاد إلى عنيزة للعمل معلماً مع صالح بن صالح، وصار يُنظر إليه واحداً من الطلائع النجدية المتعلمة قليلة العدد وقتذاك. غير أنّ الرجل كان صاحب طموح للمزيد من التحصيل العلمي، وكانت بوصلته مصوبة نحو الدراسة في المعهد السعودي ومدرسة تحضير البعثات بمكةالمكرمة لأن المدرستين كانتا بمثابة مصنع لإعداد وتأهيل رجالات ومسؤولي الدولة آنذاك. المعهد السعودي وبالفعل شدَّ أبا الخيل الرحال إلى مكة والتحق بالمعهد السعودي وتتلمذ على يد أساتذة كبار، وتزامل في الصف وتقاسم السكن مع ناصر المنقور وعبدالرحمن المنصور وطه قرملي وأحمد زكي يماني وعبدالله حبابي. وقد روى لي عبدالرحمن حينما التقيته في منزله في حي الخالدية بمدينة جدة يوم 2/12/ 2010، ضمن مشروع كتابة سيرة زميله ورفيق دربه وعديله الشيخ ناصر المنقور -والكلام هنا للمؤرخ محمد السيف- «كيف كان تأثير البيئة الحجازية عليه وعلى زملائه الطلبة النجديين، وكيف كانوا يقضون وقتهم في مسامرات أدبية وثقافية، خاصة الندوة الثقافية الأدبية التي تقيمها اللجنة الثقافية المنتخبة في المعهد مساء كل خميس، والتي كان ناصر المنقور يعمل سكرتيراً لها ويساعده محمد فدا. وكيف كانوا يرتادون مكتبة الثقافة في باب السلام لصاحبيها صالح وأحمد جمال من أجل القراءة والاطلاع على أحدث المجلات القادمة من مصر». ومن الطرائف التي رواها أبا الخيل للمؤرخ السيف أنه وصحبه كانوا يستذكرون دروسهم عصراً على قمة «جبل هندي» في مكة، ثم ينسلون تباعاً إلى أروقة المسجد الحرام لأداء صلاة المغرب بمجرد غروب الشمس، ثم يبقون في الحرم للاستفادة من إنارته في مواصلة استذكار الدرس ليلاً، «لكن رجال الحسبة كثيراً ما كانوا يطردونهم من المسجد الحرام إذا ما شاهدوهم يقرأون مادة اللغة الإنجليزية قائلين لهم: كيف تجيزون لأنفسكم الدخول بهذه الكتب إلى أروقة المسجد الحرام». الرحلة إلى مصر وتمضي الأيام بالرجل في مكة حتى عام 1947 الذي شهد تخرجه من المعهد العلمي، وبالتالي تأهله للدراسة في مصر ضمن مجموعة من الطلبة. وهكذا حقق الرجل الأمنية التي ترك من أجلها أهله ومدينته في قلب نجد، ولم يبقَ أمامه سوى ترقب موعد الإنطلاق بحراً نحو القاهرة التي كان قد سمع الكثير عنها وعن نجومها وأدبائها ومباهجها وتمدنها من شباب سعوديين سبقوه إليها أو قرأ عنها في المجلات المصرية التي كانت تصل إلى مكة بانتظام. وما هي إلا أيام ويخوض عبدالرحمن مغامرته الأولى مع البحر، مستقلاً الباخرة «تالودي» من ميناء جدة إلى ميناء السويس. وما هي إلا أيام أخرى من التعب ودوار البحر ويحل الرجل في القاهرة، ويتمم إجراءات قبوله بالجامعة وإجراءات سكنه في دار البعثة السعودية. كتب محمد السيف (بتصرف): «سكن أبا الخيل مع زميله يوسف الحميدان في بادئ الأمر، ثم مع عبدالرحمن الذكير، غير أن مشكلة واجهته وغيره من الطلبة القادمين من مكة، وهي عدم إجادة الإنجليزية، التي لا يمكن للطالب أن يقبل في الجامعة دون اجتياز اختباراتها، لذلك قرر أبا الخيل وزميله المنقور أن يُمضيا شهور الصيف في تعلّمها، واستطاعا الحصول على مدرس خصوصي قدم لهما الدروس في منزله، رغم صعوبة الحصول على الدروس الخصوصية في ذلك الزمن وصرامة المجتمع تجاهها». وُفق عبدالرحمن في اجتياز امتحان اللغة الإنجليزية فانتظم طالباً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، قسم «لغة عربية ولغات شرقية» مع اختيار اللغتين الفارسية والعبرية ضمن اللغات الشرقية. «كانت كلية الآداب حينذاك منارة من منارات التنوير في الوطن العربي، وكانت محط آمال وتطلعات الشباب والفتيات، وكان الشاب السعودي الذي لا ينوي مواصلة دراسته الجامعية في مجال الطب أو العلوم أو القانون، يحقق طموحه عبر الالتحاق بكلية الآداب. غير أن بعضاً منهم يُرغم على دخول كلية دار العلوم! ومنهم من يدرس سنة أو سنتين في دار العلوم ثم يُحوّل إلى كلية الآداب، المُشرقة بوجوه الفتيات، إذ كانت هي الكلية الوحيدة حينذاك التي تسمح بالدراسة المختلطة بين الجنسين، لذلك ليس غريباً أن يحرص الشاب على الالتحاق بهذه الكلية»، طبقا للمؤرخ السيف الذي أضاف سبباً آخر لتحمس الشباب السعودي في الالتحاق بكلية الآداب وهو هيئة تدريسها المكونة من عمالقة الثقافة والفكر والأدب على مستوى الوطن العربي من أمثال طه حسين، وأمين الخولي، وأحمد أمين، وسهير القلماوي. تأثر عبدالرحمن وزميله المنقور بهذه القامات الأدبية الرفيعة، لكن صاحب التأثير الأكبر عليهما كان أمين الخولي بدليل انضمامهما إلى جماعة الأمناء (نسبة إلى الأخير) وذهابهما عصر كل يوم إلى بيت الخولى في مصر الجديدة حيث كان الخولى يخاطب الواحد منهما قائلاً: يا حجازي، رغم أنهما لم يكونا من الحجاز. الصفحة القاهرية وتحتفظ ذاكرة عبدالرحمن بصور شتى من فترة دراسته في مصر، لاسيما رحلات الخروج ليلة الجمعة من السكن للعشاء في المطاعم أو الجلوس على مقهى الفيشاوي في حي الحسين، ورحلات القناطر الخيرية، والمقالب الطريفة التي كان يدبرها زميله في السكن الوزير والمستشار السابق المرحوم الدكتور عبدالعزيز الخويطر. لكن أكثر الصور ثباتاً في ذاكرته هي المفاجأة التي حدثت اثناء أدائه امتحانات التخرج النهائية، ففي ذلك اليوم المصادف ل23 يوليو 1952 وقع الانقلاب الذي أطاح بالملكية. وفي هذا السياق يخبرنا أبا الخيل أنّ الناس في القاهرة كانوا متبرمين ومتضايقين من الأوضاع، وبالتالي كانوا متوقعين حدوث الانقلاب. أما هم، كطلاب سعوديين فكانوا يسمعون السباب والشتم للملك فاروق. وفرحوا مع الآخرين بما حدث. في عام 1952، أنهى أبا الخيل دراسته الجامعية وعاد إلى وطنه متأبطاً ذراع زوجته المصرية «صفية عبدالسميع»، التي كانت زميلة له في قسم اللغة الإنجليزية، وكان والدها عبدالسميع عبدالوهاب من رجال التربية والتعليم ومديراً لإحدى مدارس المنصورة. لاحقاً صار زميله ناصر المنقور عديلاً له بعد زواجه من شقيقة زوجته «سوسن عبدالسميع». وهكذا صار من الصعب أن يطوي أبا الخيل صفحته القاهرية بعد أن تصاهر مع إحدى عائلاتها، وبعد أن تقدم للعمل في وزارة الخارجية وتقرر تعيينه ملحقاً سياسياً في السفارة السعودية بالقاهرة، في أعقاب قضائه فترة قصيرة موظفاً في ديوان عام الوزارة بجدة زامل خلالها شخصيات تألقت لاحقاً في عالم الدبلوماسية السعودية مثل: عمر السقاف، طاهر رضوان، محمد المرشد الزغيبي، جميل الحجيلان، عبدالعزيز داغستاني، وحمزة مرزوقي، وناصر المنقور. الفترة الذهبية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتعتبر الفترة ما بين 1962 1975 التي أدار خلالها أبا الخيل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية هي الفترة الذهبية للوزارة. ففضلاً على إلحاق قطاعي الرياضة والشباب، والتعليم الفني والتدريب المهني بها، راح أبا الخيل بدعم شخصي من الفيصل (بعد توليه الحكم عام 1964) يستقدم الخبراء المحليين والأجانب لوضع نظامين حديثين أحدهما للعمل والعمال والآخر للضمان الاجتماعي والتنمية الاجتماعية، ناهيك عن الاهتمام بتنمية المرأة اجتماعياً، والاستمرار في فتح مكاتب جديدة للعمل والعمال في مختلف مناطق المملكة بعد أن كانت محصورة في المنطقة الشرقية وحدها. وفي هذا السياق، يقول السيف إن أبا الخيل دفع بالنظامين بعد الانتهاء من إعدادهما إلى كل من المستشار في الديوان الملكي معروف الدواليبي ووزير النفط أحمد زكي يماني لمراجعتهما قبل تقديمهما إلى مجلس الوزراء لإقرارهما، إلا أن الفيصل رأى استمزاج رأي شيوخ الدين حولهما أولاً، خصوصاً أنهم كانوا متوجسين منهما. وفي نهاية المطاف وافق الشيخان ابن باز وابن حميد، شفاهة ثم كتابة، على مواد النظامين بعد إجراء بعض التعديلات عليها كي تتواءم مع الشريعة الإسلامية فتم إقرار النظامين وصارا نافذين. الغريب -كما يقول السيف (بتصرف)- «أنه بعد مرور أكثر من 30 عاماً على صدور نظام العمل والعمال، ناقش مجلس الشورى السعودي في دورته الأولى عام 1993 مواد النظام بقصد تحديثها، وكان أبا الخيل حاضراً بوصفه عضواً معيناً في المجلس (كان أول وزير سابق يعين عضواً في الشورى)، ففوجئ بأحد الأعضاء يزعم أن مواد النظام لا تتفق مع تعاليم الشريعة الإسلامية! لذلك طلب أبا الخيل من رئيس المجلس الشيخ محمد بن جبير المداخلة، وتحدث موضحاً أن النظام تم إقراره قبل 30 عاماً من مشايخ كبار، وأن هناك محضراً موقعاً بهذا الشأن محفوظاً في أرشيف الوزارة! وبهذا حال دون المزايدة حول نظام أشرف عليه وبذل فيه جهداً كبيراً». ومن الطرائف حول أبالخيل التي أتى على ذكرها وزير الإعلام السعودي الأسبق جميل الحجيلان في الصفحة 85 من كتاب «عبدالرحمن العبدالله أبا الخيل، وفاء لوفاء» للدكتور عبدالرحمن الشبيلي أن مجلس الوزراء السعودي شهد في إحدى جلساته في الستينات برئاسة الفيصل نقاشاً حول كلية البترول والمعادن بالظهران بين الحجيلان ووزير المالية آنذاك الأمير مساعد بن عبدالرحمن، وأن أبا الخيل ووزير الصحة الدكتور يوسف الهاجري اللذين كانا يجلسان بجانب الحجيلان همسا في إذنه مؤيدين رأيه بحماس. لكن حينما طرح الفيصل الموضوع للتصويت صوّت أبا الخيل مع وزير المالية وضد الحجيلان، فعاتبه الأخير فيما بعد على فعلته فكان رد أبا الخيل: «أنت مهبول.. تبغاني أصوت ضد وزير المالية اللي كل أمورنا بيده؟!». خرج أبالخيل من الحكومة على إثر إعادة تشكيلها عام 1975 برئاسة الملك خالد بعد وفاة الملك فيصل، تاركاً حقيبته للوزير إبراهيم العنقري زميله في المعهد العلمي بمكة وجامعة فؤاد الأول، وليبدأ هو مشواراً جديداً أعاده إلى القاهرة، لكن هذه المرة ليس طالباً أو دبلوماسياً وإنما سفيراً فوق العادة مفوضاً. غير أن السادات تسبب بتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل في قطع العلاقات السعودية المصرية. وعليه عاد أبا لخيل إلى جدة بعد 12 عاماً، ليصبح وجهاً اجتماعياً بارزاً يحظى بالتقدير والاحترام وليصير منزله، الواقع على شارع يحمل اسم والده في حي الخالدية، منتدى وملتقى يرتاده نخبة المجتمع. البقاء في لبنان لم يكتمل بعد فترة من العمل في القاهرة تحت قيادة السفير إبراهيم السليمان بن عقيل (صار لاحقاً رئيساً لديوان ولي العهد الأمير فيصل) تم نقله إلى السفارة السعودية في بيروت، ففرح كثيراً وراح يتفانى في العمل على أمل البقاء طويلاً في لبنان، لكن صادف أن زار بيروت في عام 1958 الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولي العهد ووزير الخارجية وقتذاك، واختير أبا الخيل لمرافقته، وحينما حان وقت مغادرة الفيصل تفاجأ أبا الخيل بالأمير وهو يعاتبه قائلاً: «أنتم تتخرجون وتفضلون العمل في الخارج ولا تحبون الخدمة داخل الوطن»، فلم يجد ما يرد به سوى أنه في خدمة وطنه في أي وقت وأي مكان. وهكذا فما إنْ عاد الفيصل إلى الرياض حتى أصدر قراراً بنقل أبا الخيل من بيروت إلى ديوان الخارجية في جدة، ثم أصدر بعد فترة قصيرة قراراً آخر بنقله من جدة إلى الرياض للعمل مديراً عاماً لديوان وزارة المالية الذي كان الفيصل بنفسه مشرفاً عليها. في عام 1960، شكل الملك سعود حكومة جديدة حرص أن يطعهما بعدد من الوزراء غير المنتمين إلى الأسرة المالكة، مثل وزير الخارجية إبراهيم عبدالله السويل (صار سفيراً فيما بعد في واشنطن) ووزير النفط المهندس عبدالله حمود الطريقي، ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء ناصر حمد المنقور ووزير الصحة حسن نصيف، علاوة على الأمراء طلال وعبدالمحسن وبدر بن عبدالعزيز الذين منحوا حقائب المالية والداخلية والمواصلات على التوالي. وكان من ضمن من تمّ توزيرهم أيضاً ابن شقيق الملك «الأمير فيصل بن تركي الأول بن عبدالعزيز» الذي مُنح حقيبة وزارية مستحدثة هي «العمل والشؤون الاجتماعية». لم تعش هذه الحكومة سوى عام واحد، عمل أبا الخيل خلاله تحت إمرة الأمير طلال في وزارة المالية، حيث بدا أن الانسجام مفقود بين الطرفين، الأمر الذي قرر معه الأول العودة إلى ديوان وزارة الخارجية في جدة، لكن وزير الخارجية آنذاك إبراهيم السويل فضل إعارة خدماته إلى القطاع الخاص للعمل مديراً عاماً ل«شركة أسمنت العربية» التي كان قد أسسها في جدة الشيخ عبدالله السليمان أول وزير سعودي للمالية. وتشاء الاقدار أن يقوم الملك سعود في عام 1962 بإعادة تشكيل وزارته، وتكليف ناصر المنقور بحمل حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية إلى جانب حقيبة شؤون مجلس الوزراء، خصوصاً أن المنقور كان يملك خبرة في هذا المجال اكتسبها من إشرافه لبعض الوقت على «مصلحة العمل والعمال» التي أمر الملك سعود بإنشائها في عام 1953 على أثر إضراب عمال النفط المطالبين بتحسين وتقنين حقوقهم. لكن سرعان ما وقع اختيار الملك على أبا الخيل ليكون ثالث وزير للعمل والشؤون الاجتماعية في تاريخ السعودية بعدما اعتذر السفير السعودي في كراتشي الشيخ محمد السليمان الشبيلي عن قبول المنصب.