فقدت المملكة العربية السعودية أخيراً واحداً من خيرة سفرائها وأكثرهم همة ونشاطاً وإخلاصاً وتفانياً في خدمة دينه ومليكه ووطنه. ففي يوم الأربعاء التاسع من يناير 2019 انتقل إلى جوار ربه في العاصمة اللبنانية بيروت الشيخ «فيصل بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحجيلان» السفير السعودي الأسبق لدى فرنسا وعميد السلك الدبلوماسي فيها عن عمر ناهز ال 90 عاماً. وبهذا غابت شمس رجل من المثقفين ومن رجالات الدبلوماسية السعودية الأوائل من أمثال عبدالعزيز بن معمر وناصر المنقور وعبدالرحمن أبا الخيل وغيرهم ممن التحقوا بالخارجية السعودية يوم كانت عبارة عن مبنى من طابقين على طريق المطار القديم بمدينة جدة، ولم يكن يعمل بها سوى عدد قليل من الموظفين لا يتجاوز عددهم ال 30 موظفاً. لاحظت من خلال تتبعي وبحثي عن المرحوم الشيخ فيصل أن الكثيرين يخلطون ما بينه وبين الشيخ «جميل بن إبراهيم الحجيلان». وهؤلاء لهم عذرهم، فالشخصيتان لا تتشابهان شكلاً ولا تتطابقان في اسم العائلة فحسب (على الرغم من عدم وجود صلة قرابة بينهما)، وإنما تتشابهان أيضاً لجهة السيرة الدراسية والوظيفية. فكلاهما من مواليد العام 1929، وكلاهما درسا في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) في عهد الملك فاروق الأول وتخرجا منها قبل الإطاحة بالملكية المصرية، وكلاهما التحقا بكلية الحقوق في الفترة الزمنية ذاتها تقريباً، وكلاهما عملا بعد تخرجهما في الخارجية السعودية متدرجين في مناصب دبلوماسية مختلفة، بل إن كليهما توليا حقيبة الصحة في زمنين مختلفين ثم صارا سفيرين في باريس في فترتين مختلفتين أيضاً. الاختلاف الوحيد بين الرجلين كما يتبين من مقال كتبه الإعلامي والمؤرخ السعودي المعروف الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 10/11/2013 تمثل في أن الشيخ جميل الحجيلان هو من أسس وزارة الإعلام السعودية يوم أنْ استُدعي من منصبه كأول سفير للمملكة العربية السعودية في دولة الكويت المستقلة ليُكلف بإنشاء جهاز إعلامي قوي قادر على إسماع صوت بلاده وسياساتها للعالم الخارجي، في وقت كانت فيه المملكة محاطة بأنظمة ثورية تحاول النيل منها ونشر الأكاذيب والافتراءات حولها وتشويه صورتها والسخرية من قدراتها، من خلال أجهزتها الإعلامية الضاربة. وهكذا شغل جميل الحجيلان حقيبة الإعلام لمدة عام ونصف العام في عهد الملك سعود ولمدة ست سنوات في عهد الملك فيصل، قبل أن يكلفه الفيصل بحقيبة الصحة بالإنابة مع احتفاظه بحقيبة الإعلام، ومن ثمَّ تعيينه وزيراً أصيلاً للصحة، وقبل أن يتم اختياره بعد سنوات طويلة لشغل منصب الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية من السادس من أبريل عام 1996 وحتى 31 مارس عام 2002. أما الشيخ فيصل فقد تأخر توزيره إلى عام 1985، وذلك حينما اختاره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله وزيراً للصحة خلفاً للدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله، حيث ظل ممسكاً بهذه الحقيبة الهامة المسؤولة عن صحة الملايين من المواطنين والوافدين والحجاج حتى سنة 1995 ليخلفه في منصبه الدكتور أسامة عبدالمجيد شبكشي. من جدة إلى القاهرة ولد الشيخ فيصل الحجيلان في مدينة جدة في عام 1929 ابناً لعائلة نجدية من مدينة بريدة في إقليم القصيم بوسط نجد. والتحق بجامعة فؤاد الأول المصرية سنة 1947 بعد إتمام دراسته الأولية في مدرسة البعثات بمكة المكرمة، فتخرج في عام 1951 حاملاً ليسانس الحقوق. وبعد عودته إلى بلاده التحق في عام 1952 بالعمل في وزارة الخارجية التي كان يحمل حقيبتها آنذاك نائب الملك في الحجاز الأمير (الملك لاحقاً) فيصل بن عبدالعزيز. منذ ذلك الحين راح الحجيلان يتدرج في العديد من الوظائف داخل الديوان العام للخارجية وفي العديد من سفارات المملكة حول العالم. حيث بدأ كملحق (سكرتير ثاني) في سنة 1954 ثم تمت ترقيته إلى سكرتير أول سنة 1958 ثم نقل إلى ديوان مجلس الوزراء بالرياض ليصبح في عام 1960 مستشاراً للمغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله. بعد ذلك بفترة قصيرة تم تعيينه في عام 1961 سفيراً للسعودية في مدريد، ليتم نقله في عام 1968 سفيراً لبلاده في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس، والعاصمة الفنزويلية كاراكاس، ليُنقل مجدداً في عام 1976 إلى العاصمتين البريطانية والدانماركية كسفير مقيم في الأولى وغير مقيم في الثانية. سفيراً في واشنطن بعدها تم تعيينه سفيراً لدى الولاياتالمتحدة الأمريكية في عام 1979 في عهد الرئيس جيمي كارتر، وذلك خلفاً للسفير الشيخ عبدالله علي رضا الذي كان يشغل المنصب منذ عام 1975. وقد اعتبر هذا التعيين بمثابة ترقية مستحقة للحجيلان، كون تولي مسؤولية السفارة السعودية في واشنطن لا تعهد إلا إلى الشخصيات الدبلوماسية السعودية ذات الخبرة الطويلة، وذلك بحكم العلاقات السياسية الخاصة ما بين الرياض وواشنطن، خصوصاً في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المملكة العربية السعودية والعالمين العربي والإسلامي التي تقاطعت مع الغزو السوفييتي لأفغانستان وقيام الثورة الإيرانية المشؤومة. في عام 1983، حينما كان الرئيس رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، انتهت مهامه الدبلوماسية في واشنطن، فترك مهمة تمثيل بلاده لدى الولاياتالمتحدة للأمير بندر بن سلطان، وعاد إلى وطنه، حيث تم تعيينه وزيراً للدولة وعضواً في مجلس الوزراء، ثم عُهدت إليه حقيبة الصحة في الفترة من عام 1985 إلى عام 1995 على نحو ما أسلفنا. بعد تركه لوزارة الصحة، لم ينقطع الشيخ فيصل عن الشؤون الصحية كلياً، إذ تولى رئاسة مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر السعودي، وضاعف من نشاطه في جمعية مكافحة التدخين من أجل القضاء على هذه الآفة أو على الأقل الحد منها، كما أسندت إليه وظيفة مندوب مفوض من قبل الدولة في صرحين صحيين كبيرين هما: مستشفى الملك فيصل التخصصي ومستشفى الملك خالد التخصصي بالرياض. العودة إلى «الخارجية» غير أن الرجل سرعان ما قرر العودة إلى المكان الذي بدأ منه الانطلاق في مشواره الوظيفي وهو الخارجية السعودية، فتم تعيينه في عام 1996 سفيراً لدى الجمهورية الفرنسية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، وظل يمارس مهامه هناك مذاك وحتى ديسمير 2003 حينما خلفه الدكتور محمد آل الشيخ، الأكاديمي الحاصل على ماجستير الحقوق من جامعة ريمس الفرنسية ودرجة الدكتوراه في القانون من جامعة كليرمون فيرون بوسط فرنسا. بعد رحلة دامت خمسة عقود في عوالم الدبلوماسية والتنقلات في أهم العواصم العالمية، والتي انتهت بباريس، مدينة النور والفن والثقافة، التي ضاعفت من حصيلة الحجيلان المعرفية والفكرية وعلاقاته الشخصية، خلد الرجل إلى الراحة، مقيماً ما بين جنوبفرنساوبيروت مع زيارات إلى الرياض من وقت إلى آخر، وظل على هذا الحال إلى أنْ وافاه الأجل المحتوم. الانتماء إلى «نجد الفتاة» تهمة باطلة.. و«اليسار» نزعة وقتية جاء في تقرير عن الشيخ فيصل الحجيلان نشرته صحيفة إيلاف الإلكترونية في يوم وفاته ننقل هنا أبرز ما جاء فيه مع بعض الاستطرادات والتفاصيل أن الرجل اتهم من قبل الباحث العراقي الدكتور مفيد الزيدي في الصفحتين 121 و122 من كتابه الموسوم «التيارات الفكرية في الخليج العربي 1938 1971»، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت/سنة 2000، بأنه كان إضافة إلى ناصر المنقور وعبدالعزيز بن معمر والمهندس عبدالله الطريقي من مؤسسي تنظيم «نجد الفتاة» الذي ظهر في مطلع ستينات القرن العشرين على غرار جمعية «تركيا الفتاة». غير أن هناك الكثيرين ممن فندوا هذا الاتهام وأقاموا الدليل على عدم صحته. من هؤلاء الباحث والمؤرخ الأستاذ محمد بن عبدالله السيف في كتابه «ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة»، الصادر عن دار جداول/ بيروت/2015، حيث كتب تحت عنوان «نجد الفتاة وحكاياتها» ما مفاده أن الحجيلان وقت ظهور هذا التنظيم كان على رأس عمله سفيراً لبلاده في مدريد، وأنه ظل كذلك حتى بعد إقالة الوزارة التي أطلق البعض عليها اسم «حكومة الشباب» زمن الملك سعود رحمه الله، فلو صدق أنه كان من مؤسسي التنظيم المذكور أو أحد أعضائه لما استمر في عمله الدبلوماسي الرفيع بإسبانيا. ومما ينفي عن الحجيلان تلك التهمة أيضاً أنه عدا عن كونه منحدراً من عائلة نجدية معروفة، وعدا أنه عمل فترة قصيرة في الديوان الملكي بالرياض لم تكن له علاقة بنجد. فقد ولد ونشأ وترعرع في الحجاز، قبل أن يذهب للدراسة في القاهرة كما أوضحنا آنفاً. كما أن أباه وأعمامه عاشوا في مصر كتجار للإبل والخيول كونهم من جماعة العقيلات التي اعتادت الانتشار في العراق وفلسطين وبلاد الشام ومصر للتجارة، وبالتالي تنتفي عنه شبهة العصبية لإقليم نجد، وتتأكد حقيقة أن تاريخه الفكري الخاص منسجم مع الانفتاح على الهويات المتعددة، وبعيد عن الانغلاق والعنصرية والجهوية. لم تكن تلك هي التهمة الوحيدة التي وُجهت إليه! فقد اتهم أيضاً بميوله اليسارية، حيث نسب الكاتب الروسي «ألكسي فاسيليف» في كتابه الموسوم «الملك فيصل: شخصيته وعصره وإيمانه» الصادر عن دار الساقي/ بيروت/2012 إلى التقرير السنوي لوزارة الخارجية البريطانية عام 1961 عن المملكة العربية السعودية قوله بأنه ظهر لبعض الوقت في ديوان الملك سعود مستشاران شخصيان من ذوي الميول اليسارية هما فيصل الحجيلان وعبدالعزيز المعمر. وعلى فرض أن الحجيلان رحمه الله كان ميالاً لليسار آنذاك كالكثيرين من العرب في تلك الحقبة، فإن تلك النزعة كانت نزعة وقتية لم تستمر طويلاً، وتخلى عنها الرجل سريعاً في فترة نضوجه الفكري، وإلا لما تم اختياره ليمثل بلده في عاصمة قلعة الرأسمالية، واشنطن، في أوج الحرب الباردة بين الشرق والغرب. حاز الأوسمة.. ووشاح الملك عبدالعزيز الحجيلان، الحاصل على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة، ووشاح الملك عبدالعزيز، ووسامي «غراند كروز» و«إيزابيلا لا كاتوليكا» من إسبانيا، ووسام «مايو غراند» من الأرجنتين، ووسام «فارس الإمبراطورية البريطانية» من بريطانيا، ووسام «ريو براتكو» من البرازيل، ووسام «لوبير أنادو أوفيسيال» من فنزويلا، تزوج بزوجته السيدة «نهلة» حينما كانت الأخيرة تتلقى دراستها في تخصص القانون في دمشق، علماً بأنها من مدينة دير الزور. وحينما اصطحبها معه إلى لندنوباريس خلال السنوات التي مثل بلاده فيها كانت من زوجات السفراء السعوديين القلائل آنذاك اللواتي ظهرن علناً إلى جوار أزواجهن في حفلات الاستقبال الدبلوماسية، وسخَّرن جهودهن لإعطاء انطباع مذهل عن المرأة السعودية المتحضرة والمتكيفة مع الثقافات الأجنبية، على نحو ما فعلته قبلها السيدات: كرم الحجيلان زوجة الشيخ جميل الحجيلان، وعصمت الحجار زوجة السفير عبدالله الملحوق، وسوسن عبدالسميع زوجة السفير ناصر المنقور. وقد وصفتها الكاتبة والصحفية الأمريكية «سالي كوين» في مقال لها بصحيفة الواشنطون بوست الأمريكية (20/7/1977) على إثر التقائها بها في لندن، بأن من لا يعرفها يعتقد للوهلة الأولى أنها سيدة من سيدات المجتمع الأرستقراطي البريطاني بسبب أناقتها ولغتها الإنجليزية السليمة وقدرتها على إضفاء الدعابة والمرح والدبلوماسية على حديثها، مع استثمارها لتخصصها الحقوقي في الدفاع المنطقي عن وطن زوجها إزاء الأسئلة الاستفزازية التي عادة ما تُطرح في الإعلام الغربي عن العادات والتقاليد في المملكة العربية السعودية بقصد الإثارة أو التشويه المتعمد. * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين