كثيراً ما نسمع أمثالاً على شاكلة «الموت مع الجماعة رحمة»، و«حطها في راس عالم واخرج منها سالم»، وغيرها من الأمثال الكسولة، فأصبحنا أشبه بمسخ من ملايين الأجساد ركبت في بضع رؤوس، فكثر اللحم والعظم وقل الفكر القائد المبتكر، وزاد الضغط على النخب. إن العقل الجمعي ظاهرة نفسية اجتماعية نشأت في المجتمعات البدائية، تطلبتها مرحلة الجهل وقلة الأدوات والأخطار المحدقة، فتجدهم كالقطيع يتحرك ككتلة واحدة تحت قيادة الأقوى والأكبر سناً، ويتفق القطيع على أن حركتهم الجماعية تعكس سلوكاً صحيحاً، وكل فرد يفترض أن الآخرين لم يتحركوا بهذا الاتجاه أو ذاك إلا لأنه صحيح. وتبرز سطوة الجماعة في مدى انصياع أفرادها للقرارات الجماعية التي هي في حقيقتها قرارات فرد أو في أحسن الأحوال عدد قليل من الأفراد، لديهم دائرة ضيقة من المعلومات التي يبنى عليها القرار، هذا الانصياع هو نتيجة فقد الفرد القدرة على اتخاذ قرار في موقف معين، أو بهدف اكتساب القبول الاجتماعي، فيكون الأهم في نظر الفرد أن يكون على حق في نظر الغير، بغض النظر عن قناعاته الحقيقية. ونعود لسؤالنا الرئيس، ماذا خسرنا بالاتكالية؟ ماذا خسرنا بإهمال عقولنا كأفراد متمايزين في الأفكار، متنوعين في الرؤى؟ ماذا خسرنا بركن عقولنا في الرف؟ ماذا خسرنا بالركون إلى دائرة ضيقة من العقول التي استهلكنا إبداعها وقدراتها بتحميلها أكثر مما تحتمل. إن آخر إبداعات العقل العربي كانت في زمن التنوع والنزوع للفردية وتقبلها في القرون الثلاثة الأولى، التي شهدت بروز المذاهب الفقهية التي مازال علماء الفقه عالة عليها إلى الآن، وتنوع وإبداع أدبي وفني مازالت شواهده تتصدر المشهد حتى الآن، والأمر ذاته ينسحب على علوم الطب والهندسة والفلك والرياضيات والفلسفة، ثم انتكس الحال بالعودة لسلوك القطيع بالتكفير والتفسيق والنبذ، وتحول الصراع من صراع إبداع، إلى صراع تنافس على القرب من دائرة القرار، لننتقل من معارك البناء إلى حروب الفناء في الداخل والخارج. أخيراً.. نحن نمر الآن بمرحلة ثمينة إحدى ثمراتها رؤية 2030 التي تدعو للتنوع والإبداع وإخراج مارد العقل الفردي المبدع من سجنه، فإن لم تكن ذا أفكار إبداعية وإمكانيات فذة، فلا تكن عثرة في عجلة التنمية، ولا أداة في أيدي القطيع.