ما فتئ عدد من المثقفين يشهرون سلاح مقاطعة الفعاليات الثقافية في عدد من المناسبات التي شهدتها الفعاليات الثقافية في بلادنا بحجج مختلفة، تتفاوت بين غياب الديمقراطية في الساحة الأدبية والثقافية، والإقصاء والتهميش، وسطوة تيار على آخر في الفعاليات، وغير ذلك من الحجج.. وقد برزت هذه المقاطعة مؤخرًا بشكل قوي في معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أقيم قبل نحو شهر تقريبًا، وقاطعه عدد من المثقفين لأسباب عديدة، وربما تستمر هذه الظاهرة أيضًا في فعاليات ثقافية سنشهدها على مستوى المملكة وحتى على مستوى العالم العربي، وهو ما دعاهم إلى بعث الكثير من مطالبهم لوزارة الثقافة والإعلام والوقوف على هذه المطالب حتى تتحقق، وإلاّ فإنهم سيستمرون في المقاطعة، الأمر الذي سيكون له مردود سلبي على المشهد الثقافي وخلوه من العديد من الأسماء والشخصيات. وبإزاء هذا الوضع ترتفع الأسئلة إلى السطح باحثة عن إجابة شافية حول مدى فاعلية المناداة بمقاطعة الفعاليات الثقافية من قبل المثقفين.. وأسباب هذه المقاطعات.. وما جدواها في النهوض بالمشهد الثقافي.. وما آثارها السلبية والإيجابية.. المشاركون في هذا الاستطلاع تفاوتت آراؤهم بين التأييد المطلق لمبدأ المقاطعة بوصفه “سلوكًا حضاريًّا” للتعبير عن الرأي بغية النظر في أسباب المقاطعة وحلها جذريًّا بما يتيح المساحة لمناخ معافى يمكن الجميع من الادلاء بآرائهم دون خوف من إقصاء أو رهبة من تهميش، فيما يرى آخرون أن المقاطعة دليل على ضيق أفق ممن يقومون بها، وأنها لن تؤدي إلا إلى مزيد من تعميق الغربة الثقافية وإتاحة الفرصة للصوت الآخر لتسيد الساحة برؤيته الآحادية.. سلوك غير لائق بداية يصف الشاعر خليل الفزيع العضو المستقيل من نادي المنطقة الشرقية في مجلسه السابق بأن المناداة بمقاطعة أي من الفعاليات الثقافية من الأمور التي لا تليق بالمثقفين مهما كان السبب، لأن هذا يعني إغلاق نافذة معرفية واسعة، ربما حرمت الكثيرين من الحصول على مبتغاهم من الثقافة على اختلاف تنوعها.. مضيفًا بقوله: هذا الموقف السلبي يسهم حتمًا في إقصاء بعض المستنيرين الحريصين على متابعة هذه الفعاليات. وهذا الموقف دليل على ضيق الأفق، فالمثقف مطالب بالحضور الثقافي حتى في المواقف التي لا يرضى عنها، ليقول رأيه من خلال الحوار الإيجابي، وليس المقاطعة السلبية، فمثل هذه المقاطعات أو غيرها من الأمور الأخرى لن تجدي نفعًا في معالجة أوضاعنا الثقافية، وهي أوضاع لا تعاني من أي إخفاقات حادة، ولكنها تحتاج إلى صلابة الموقف من المثقفين في اتجاه السعي لتأصيل قيمة الحوار المجدي بدل المقاطعة السلبية، فهذه المقاطعة وإن كانت في كل الحالات تسجّل موقفًا واضحًا لأصحابها، إلا أنها تساعد على تعميق القصور في أداء مثقفينا لمهماتهم الثقافية، وهو موقف رغم احترامنا لأصحابه ربما يفسر على أنه دليل على ضعف الحجة لدى أصحابه. ويعود الفزيع ليؤكد أن المقاطعة موقف سلبي، والعكس كذلك ففي المقابل فإن الحضور موقف إيجابي يسهم في معرفة الرأي والرأي الآخر، وبمثل هذا الحوار تتضح كثير من الأمور الملتبسة لدى هذا الطرف أو ذاك، ولم يقد الموقف السلبي في يوم من الأيام إلى نتيجة فعالة ومثمرة.. وبخاصة أن قضايا الثقافة لا تفترض الحدية في الموقف، لأنها قابلة للنقاش والحوار الإيجابي، ومثل هذا الحوار هو ما نحتاج إليه، لتجاوز الإحباطات والعراقيل التي قد تعترض مسارنا الثقافي. احتجاج حضاري وعامل محفّز وخلافًا لرؤية الفزيع يرى الدكتور زيد بن علي الفضيل أن المقاطعة سلوك حضاري كفيل بتعزيز حالة المناهضة لكل ألوان التشدد والتطرف، ويبرز ذلك في ثناي قوله: ليسمح لي القارئ أن أعبر عن مدى حزني الشديد لحالة السكون القاتل الذي ما زال يعتري مشهدنا الثقافي الذي يعاني في أساسه من القصور المعرفي والرتابة الفكرية من جهة، وضيق مساحة الحرية وصغر حيز الحركة التأملي عند عدد من الكُتّاب والمثقفين من جهة أخرى، وهو ما يؤثر سلبًا في تنامي وتيرة الحراك الثقافي بالشكل المتسارع المطلوب، بحيث لا يزال مشهدنا الثقافي المعاصر محمومًا بنقاشات ساخنة، قد عفا عليها الدهر في عدد من الدول المجاورة منذ نصف قرن ويزيد. ولا شك فإن ذلك قد عمَّق من حالة اليأس والقنوط عند عديد من المثقفين الصادقين، الذين تفاوتت ردود أفعالهم بين الإصابة بداء الانسحاب الاجتماعي فعمدوا إلى الكمون ضمن إطارات حياتية مغلقة بشكل كلي، حفاظًا على أنفسهم من طيش متهور سَلَّم مفتاح عقله وتفكيره لمن دغدغ مشاعره بخطاب صوتي عقيم، كرس فيه التبعية وأمات في دواخله الذهنية خصيصة التفكير بحثًا عن آفاق الحرية وملكات الاختيار وفق ما أراد اللّه جلّ جلاله، وبين فئة أخرى قررت أن تنافح عبر مختلف السبل، من أجل إيصال صوتها والتعبير عن قناعاتها، متخطين حاجز الخوف، ومتجاوزين نفسيًّا وعمليًّا لكثير من أعمال التشويه الوطني والتحريض الفكري والديني والطائفي أيضًا، التي جسّدتها الكثير من العبارات المغرضة كعبارة «زوّار السفارات» ناهيك عن الكثير من ألفاظ التبديع والتفسيق. ويمضي الفضيل في حديثه مضيفًا: وعليه فإن من أهم السبل الكفيلة بتعزيز حالة المناهضة لكل ألوان التشدد والتطرف، اتخاذ القرار بالمقاطعة، كلون من ألوان الاحتجاج الحضاري المدني الراقي، وهو ما بادر إلى فعله بعض المثقفين خلال فعاليات المعرض الثقافية لهذا العام، وهي وسيلة ناجعة لتحفيز وزارة الثقافة والإعلام لأن تكون أكثر صلابة لتنفيذ مشروع الدولة التنويري التحديثي الذي أسس ملامحه الأولى الملك المؤسس، واقتفى أثره من بعده خلفاؤه من ملوك هذه البلاد الطاهرة، حين رفضوا بحزم الانصياع لتخرصات المتشددين الرافضين لكل ألوان التطوير والتقدم. وما أمسنا اليوم ونحن نعيش ملامح الرؤيا الإصلاحية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، إلى أن تتبنى وزارة الثقافة بوجه خاص مسار مسيرة التنوير بكل حزم وثبات، وهو ما باتت تنشده كل أطياف المجتمع عوامه ومثقفيه، الرافضين اليوم لسيطرة الرأي الأحادي أيًّا كان توجهه على ملامح مشهدنا الثقافي بشكل عام، حتى لا تفقد الساحة وسطيتها واعتدالها المنشود، ولكي لا تتجذر علامات داء الانسحاب والهجرة الثقافية في محيطنا المجتمعي بشكل عام. ويواصل الفضيل رؤيته بقوله: بما أن سوق الثقافة معتمد في نجاحه على مدى ومقدار تفاعل المثقف مع مختلف المشروعات الثقافية، وعلى اعتبار أن ممارسة المقاطعة تمثل حقًّا مشروعًا، ففي تصوري أن ذلك سيكون له أثره الإيجابي في وتيرة الحراك الثقافي، إذ لا يمكن لأي مؤسسة ثقافية الاستمرار دون تعميق هذا التفاعل وتعزيز لبناته، وبالتالي فإن ممارسة عدد من المثقفين البارزين لهذا الحق، سيحفز المسؤولين لإعادة رسم خارطة المشهد بما يحقق النماء والتقدم، سواء كان ذلك على المدى القريب أو البعيد. ويختم الفضيل قائلًا: إن المشكلة ليست في التعرف على وجهة النظر الأخرى، إذ ما الفائدة من التعرف عليها وأنت لا تستطيع مناقشتها وإظهار ما يدور في ذهنك من رؤى نقدية حولها؛ كما وليست القضية في كيفية إيصال الصوت، وبخاصة إذا كان ذلك عبر الضجيج، حيث لن يتمكن أحد من سماع الآخر، وبالتالي لن يكون لأي طرف فرصته للتفكير في دلالات ومآلات مختلف الخطابات الحاضرة في الميدان؛ إنما قيمة الأمر تكمن في الحصول على منبر حر يتمكن كل صوت فيه من أن يدلوا برأيه فيه بهدوء ودون خوف من تبعات سلبية تقوم على محاكمة النيات، ونصب محاكم التفتيش على الأفكار والقناعات من منظور أيديولوجي واحد. هذا هو لب الأمر وجوهره، وبالتالي فالتواجد لغرض التواجد لن يكون له أي قيمة جوهرية، طالما أن الآخر لا يسمح لك بالتعبير عن كامل قناعاتك، وطالما أن عقدة الخوف هي المسيطرة على مناحي تفكيرك الذهني، في حينه فالمقاطعة أجدى وأنفع بهدف التنويه ودق الجرس بقوة على مكامن الخلل في حركية مشهدنا الثقافي بوجه عام. في مرآة الغذامي ويقف الناقد الدكتور صالح زيّاد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود في منطقة البحث عن مسوغات المقاطعة بقوله: لا يمكن القول بصواب مقاطعة المثقفين لفعالية ثقافية دون معرفة السياق الذي يتحقق فيه معنى المقاطعة، والدلالة التي يراد التأشير عليها بالمقاطعة. وعلى هذا الأساس فلا أعتقد أن الدعوة التي أعلنها البعض إلى مقاطعة معرض الرياض الدولي للكتاب - بشكلها وسياقها الذي اطلعت عليه- إيجابية، بل على العكس، فسياق التذمُّر من المتشددين الذي كانت الدعوة إلى المقاطعة تعبيرًا عنه وتدليلًا على الاحتجاج، يعني أن يفرغ الميدان لهم، وذلك انهزام وسلبية لا تليق. ويضيف زياد أن انسحاب الناقد الدكتور عبدالله الغذامي من البرنامج الثقافي تصرفٌ ينم عن سلوك حضاري، ودلالة نقدية أراد الدكتور أن يعلنها على وزارة الثقافة، بسبب إلغاء الندوة المقررة للتغيرات في منطقة الخليج والتي كان مقررًا أن يشارك فيها: تركي الحمد، ومحمد حامد الأحمري، وموزة غباش، وباقر النجار. وقد أُعْلِن إلغاء هذه الندوة بالطبع بعد أحداث النقد الشديد الذي شنّه المتشددون على المعرض والوزارة، وخصوا الندوة المذكورة بالذكر في مواجهتهم للوزير، كما هو معروف. وعلى الرغم من أن إلغاء الندوة كما عرفت من بعض الزملاء في اللجنة الثقافية بالمعرض كان بسبب اعتذار ثلاثة من المشاركين وعدم حضورهم، فإن الوزارة لم تعلن السبب، ولم تعلّق على ما حدث، وظل المفهوم أن الإلغاء جاء انصياعًا لمن طلب الإلغاء. ويرى زياد أنه في هذه الحالة ينبغي النظر لما فعله الدكتور الغذامي من انسحاب بملء التقدير والإكبار. وفي هذه الحالة نفهم كيف تكون المقاطعة أو الاحتجاج دالًا دلالة إيجابية وليس سلبية. جبن فاضح ويرى الشاعر حسن بن محمّد الزهراني رئيس نادي الباحة الأدبي أن ما حدث في معرض الرياض ليس جديدًا هو ما يحدث كل عام على تفاوت في الفعل ورده، فلماذا نضخم نحن هذه القضية ونجعلها أهم القضايا رغم أن مشهدنا الثقافي يعج بالكثير من القضايا التي هي أهم بكثير من زوبعة اعتقد أن حلولها بسيطة جدًّا.. كما أن دور لجنة التنظيم كان سلبيًّا حيث كنا نتوقع توقعها لمثل هذا وأخذ الاحترازات اللازمة. ويضيف الزهراني: البرنامج الثقافي الذي كان مصاحبًا للمعرض لم يكن بحجم تطلعات المثقفين وكنا نطمع أن نجد كمًّا ونوعًا من الفعاليات المصاحبة لأكبر معرض عربي بحجمه. وفيما يخص المقاطعة يقول الزهراني: أنا اعتبرها سلبية جدًّا خصوصًا إذا عرفنا أن الصوت المخالف يعتبرها هزيمة ويحقق من خلالها انتصارًا. وأعتبر هذا صراعًا حضاريًا حتى وإن وجدنا في الصوت الآخر حدةَ وإقصاء وتغييبا و و و... فنحن يجب أن نقف ونناقش ونطلع الصوت الآخر على ما لدينا وأننا أصحاب حق. مختتمًا بقوله: أيضًا أعتبر أن مقاطعة المثقف لمثل هذه الفعاليات جبنًا فاضحًا لأن إثبات الموقف يكون لدى جهة أو سلطة، أما إذا كانت مع الصوت الآخر فهذا صراع حضاري والغياب عنه هزيمة ربما جنى تبعاتها الجيل بعد الجيل في الحين الذي كنا نأمل من المثقفين وقادة التنوير الصمود والإصرار على أن ننشر رسالتنا الإنسانية السامية التي بدأها سيد الخلق محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه وسلّم.. مجابهة القبح ويقول الكاتب والشاعر خالد قمّاش: سبق وأن تحدثت لإحدى القنوات الفضائية رافضًا فكرة المقاطعة من قبل المثقفين؛ وقلت إن أي انسحاب أو مقاطعة تحسب انتصارًا لصالح الطرف الآخر، كما أن الانسحاب من بعض الأدباء كان أشبه باستعراض إعلامي أكثر من أي شيء آخر! ويعلل قماش حديثه بأن القبح لا يجابه إلا بزرع الجمال في بيادر الروح، والظلام لا يحارب إلا بإشعال الشموع في آفاق مفتوحة للغيم والبوح والمطر، ثم إن زوبعة المحتبسين لم تكن سوى في اليومين الأولين من افتتاح المعرض، بعد ذلك أوقفوا عند حدهم، ولكنهم بدؤوا يستخدمون أساليب استفزازية كإصدار البيانات الإلكترونية، والتحرّك على شكل جماعات في أروقة المعرض. ويرى أن المعرض مساحة أتاحته وزارة الثقافة والإعلام لتبوح التجارب بإبداعاتها، فإذا تركت هذه المساحة فارغة أو شاغرة سيستغلها المتشددون والمرجفون في المدينة ليملؤوها بالخطاب الوعظي والأنشطة المتكلسة التي تكرّس التشدد والإقصاء والترهيب في شتى مناحي الحياة. ويختم حديثه بقوله: لقد عايشت ساعات عصيبة كان يعاني منها أحد الأصدقاء المشاركين في برنامج المعرض الثقافي، وكان يلوّح بالانسحاب وكنت ومجموعة من الأصدقاء نقنعه بعدم الرضوخ لهكذا تهديدات غير مسؤولة، كنا نحرضه على أن يصدح بصوته عاليًا، ويمضي في سكينة واطمئنان، وقد فعل ذلك وسجّل حضوره انتصارًا للصوت الإنساني الحقيقي على مستوى القصة القصيرة.