في منتصف الستينات، شاهد الناس في البحرين والخليج شابا نحيلا خجولا يرتدي الكوفية والعقال على الطريقة البحرينية الشعبية، يطل عليهم للمرة الأولى من خلال شاشات التلفزة (كانت مقتصرة وقتذاك على محطة تلفزيون أرامكو من الظهران ومحطة الكويت الحكومية)، وهو يغني بصوت رخيم على أنغام موسيقى هادئة جميلة بعيدة عن قرقعة الطبول وضجيج المراويس، أغنية لم يعتادوا سماعها آنذاك سواء لجهة اللحن أو لجهة الكلمات. تلك كانت أغنية «دار الهوى دار» التي كتب كلماتها الشاعر الكويتي بدر بورسلي، وصاغها لحنا الفنان الكويتي القدير سعود الراشد. «دار الهوى دار.. إمتى تجينا يا حلو نفرش لك الدار»، كلمات بسيطة صورت معاناة الحبيب من فراق الحبيبة ولهفة انتظار عودتها، والاستعداد للقياها، لكنها كانت إيذانا بمولد من سوف يصبح خلال فترة زمنية وجيزة، علما من أعلام الطرب والموسيقى في البحرين، ومؤسسا لمدرسة طربية حديثة تخلف مدرسة رواد الغناء الشعبي العتيقة، وفنانا يتنافس على التعاون معه ملحنو وكتاب الأغنية من داخل البحرين وجوارها الخليجي، وصوتا يدخل القلوب قبل الآذان دون استئذان. إنه الفنان إبراهيم حبيب ابن البحرين، الذي غسلتْ قطرات ندى المحرق صوته وعجنته بطيبها ومشمومها وعبق فرجانها القديمة، فغدا صاحب تجربة غنائية فريدة وأصيلة، بل فنانا متميزا عن غيره ليس في نتاجه الفني الرفيع، ولا في صوته الدافئ، ولا في إخلاصه لفنه فحسب، وإنما أيضا في أخلاقه وتواضعه وقربه من الناس وتماهيه مع قضايا وطنه وهموم مجتمعه. وشاهدنا هو أنّ كل الظروف الصعبة التي واجهته في حياته ابتداء من المستوى المعيشي المتواضع وقلة الحيلة، وانتهاء بتربص البعض به لقطع رزقه وإحباطه وإخراجه من الساحة الفنية، لم تنجح في كسر شوكته، بل زادته إصرارا فوق إصرار على النجاح والاستمرارية. أما حبه لوطنه وناسه فيكفينا الاستماع إلى رائعته الخالدة أغنية «تبين عيني» (ألحان عبدالرب إدريس وكلمات بدر بورسلي) التي أطلقها عام 1986 وجسّد فيها نبض كل بحريني تجاه أرضه، فصارت تتردد على الألسن مصحوبة بقشعريرة ولاء وانتماء تسري في الأبدان: تبين عيني... لج عيوني... أنا وكل ما أملك... فدا أرضج يا شوق اللي إذا أبعد يناديني... يقول انت عزيز الراس... وأهلك من أعز الناس... يقول انت بحريني... يقول انت بحريني ألا يا ساحل البحرين... يا ريحة هلي الطيبين... أشمك طيب كل عمري... يا أغلى من نظير العين... يا دانة كل مداينها... إهيا مني وانا منها... يا شوق اللي إذا أبعد يناديني... يقول انت بحريني إذا غربت أوشرقت... أشيلج حرزي يا للدانة يا مركب في بحور الحب... خفق في صدري ربانه وانتي بالزمن نخلة... زرعها شعبنا كله... يا شوق اللي إذا أبعد يناديني صحيح أن الرجل -بحسب تصريحاته الصحفية في السنوات الأخيرة- أعلن قرار انسحابه من الغناء، وليس اعتزاله (وكذلك العزوف عن إجراء المقابلات والحوارات لأن أسئلتها مكررة) إلا أنه لا يزال ناشطا على جبهة أخرى غير منفصلة تماما عن الفن، وهي التوثيق للفن والتراث الغنائي الشعبي من خلالة كتابة المقال الصحفي وإعداد البرامج المسموعة والمرئية وإصدار المؤلفات مثل كتابه «رواد الغناء في الخليج والجزيرة» وكتابه الآخر «أسطورة الغناء الشعبي: الفنان محمد زويد 1900 1982». وبهذا تحول حبيب إلى مذيع يصل صوته إلى محبيه من خلال برنامج «طربيات» الذي ظل يقدمه من عام 2006 إلى عام 2016 في إذاعة صوت الخليج من الدوحة، بعد أن كان صوته يصل من خلال الغناء المصاحب للموسيقى. قرار الانسحاب ويبرر حبيب قرار الانسحاب بما يُرتكب على الساحة الفنية من مهازل، وعلى رأسها كثرة من يقتحمونها ممن لا علاقة لهم بالفن، وكثرة من يحاولون تقليد الأصل فيفسدونه، أو يقدمون أعمالا غنائية نصوصها تافهة ومخلة، ناهيك عن غياب التشجيع والدعم الكافي للمسيرة الفنية من قبل القطاعين الرسمي والخاص حتى في صورة كلمة التشجيع الطيبة، وفوق هذا وذلك تحول الفن إلى تجارة مما ترك آثارا سيئة على الذائقة الفنية الجمعية. ولد إبراهيم حبيب في المحرق الشماء عام 1948 لأسرة متواضعة، لكنها مغرمة بالفن فوالده كان عاشقا للطرب ومستمعا جيدا، وكذلك والدته التي اضطرت لبيع مصاغها كي تدعم ابنها في بدايات مشواره الفني. وكالكثيرين من أقرانه استهواه الفن منذ سنوات طفولته وحلم أن يكون ذا شأن في عالم الطرب ذات يوم. وكالكثيرين أيضا لم يكن يملك ما يشتري به عودا للتمرن، فكان مضطرا للعزف على علبة من الصفيح شدّت عليها خيوط صيد السمك النايلونية في شكل عود بدائي صنعه بنفسه. وعلى خلاف آخرين من نجوم ورواد الغناء والطرب ممن سنحت لهم الظروف التدرب على أيدي قامات غنائية شهيرة، فإن إبراهيم حبيب لم يجد من يأخذ بيده ويعلمه ألف باء العزف سوى شخص كفيف من أصول إماراتية يدعى يعقوب كان يقيم بجوار مسكن أسرته في القضيبية، قبل أن يترك البحرين ويذهب للعيش في الإمارات. ولم يجد من يدعمه ويشجعه سوى صديقين ارتبط بهما منذ الخمسينات هما: الفنان يوسف حمادة (صاحب أغنية كل عام وأنتم بخير) وقريبه من جهة الأم المطرب عبدالعزيز بو رقبة (أحد أعمدة الصوت البحريني والغناء اليمني بنكهة بحرينية). بدأ حبيب الغناء في سن الثانية عشرة أو نحو ذلك حينما كان تلميذا في مدرسة القضيبية الإعدادية للبنين بالمنامة، وكانت المدرسة -آنذاك- تجري بروفات غنائية لتقديمها في حفل بمناسبة عيد جلوس صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة حاكم البحرين وتوابعها (رحمه الله). وحول هذه المناسبة استعاد حبيب تفاصيلها فأخبرنا أنه كان ضمن الكورس المتدرب على يد الأستاذ عتيق سعيد رحمه الله (أحد أعمدة إذاعة البحرين لاحقا) استعدادا للحفل، فاستوقف أحد الأصوات الأستاذ عتيق، مما جعله يطلب من كل فرد ضمن المجموعة أن يغني على انفراد. وحينما جاء الدور عليه امتنع خجلا، لكنه رضخ للأمر تحت التهديد بإبعاده من المجموعة، وما إنْ غنى حتى تهللت أسارير وجه الأستاذ وقال له «أنت من كنت أبحث عنه». بعدها أعجب زملاؤه وأساتذته بصوته ومنحوه الدعم والتشجيع للانطلاق في عالم الغناء، فغنى أول ما غنى أغنية تنطوي على حب الوطن. ولم تكن تلك سوى أغنية «نذر عليّ ودين.. ما فارق البحرين». النغمات الأولى تلك كانت حكايته الأولى مع الغناء أما بداياته الحقيقية فكانت في منتصف الستينات حينما قدم إلى البحرين وفد كويتي بقيادة المطرب والملحن المعروف سعود الراشد من أجل اكتشاف المواهب الفنية البحرينية. وقتها لم يُعجب الراشد بصوت إبراهيم حبيب فحسب، وإنما دعاه أيضا إلى الكويت وحول هذا المنعطف الهام في حياة فناننا كتب الباحث الأردني في الموسيقى والغناء العربي الأستاذ زياد عساف في كتابه «المنسي في الغناء العربي» (دار ميريت للنشر والمعلومات/القاهرة/2013): «إن الفرصة الأولى التي حظي بها إبراهيم حبيب (مواليد 1948) كانت بحضور وفد من الكويت جاء للبحرين للتعرف على أصحاب المواهب، وتصادف حينها اللقاء بالملحن الكويتي سعود الراشد، الذي لم يكتف بالتعبير عن إعجابه بأدائه بل وجه له الدعوة لزيارة الكويت لتسجيل أغانيه في الإذاعة والتلفزيون الكويتي». نعم! حظي حبيب بالفرصة، لكن من أين له أن يدبر مصاريف السفر إلى الكويت كي يحقق من هناك حلما طال انتظاره، وهو الذي لا يملك ما يعينه على شراء مجرد عود خاص به؟ جاء الحل من لدن أمه التي رقّ قلبها على وليدها وطموحاته فقبلت عن طيب خاطر أن تبيع مصاغها كي تمول رحلة فناننا مع والده إلى الكويت سنة 1966. في الكويت، التي كانت آنذاك بمثابة مصر على المستوى الخليجي كنافذة للانطلاق والشهرة والمجد في مختلف أنواع الفنون، أطلق حبيب أغنيته الأولى «دار الهوى دار» وسجلها في الإذاعة والتلفزيون الكويتيين، لتتحول فورا إلى عمل فني ناجح يردده الجمهور في البحرين والخليج والدول العربية بصفة عامة، بل كانت الأغنية فاتحة لتعاون حبيب مع العديد من الشعراء والملحنين الكويتيين من أمثال مبارك الحديبي، وعبدالرحمن البعيجان، وغنام الديكان، ويوسف الدوخي، وإبراهيم الصولة، وفهد بورسلي، وسلطان عبدالله السلطان، ومحبوب سلطان وغيرهم. وهذا أدى بدوره إلى تعاون أوسع بين حبيب وملحنين وشعراء من البحرين والسعودية والإمارات وقطر واليمن من أمثال الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة، وحسن كمال، وعيسى جاسم، وعبدالرب إدريس، والدكتور مانع سعيد العتيبة، وعبدالعزيز ناصر، وسراج عمر، ويعقوب يوسف، وخالد الشيخ، وأبوبكر عبدالله، وحسين أبوبكر المحضار، إضافة إلى الشاعر المصري محمد السيد ندا، والملحن السعودي محمد شفيق اللذين غنى لهما حبيب 30 قصيدة دينية. الفرص بالكويت لم يكتف فناننا بأنه ذهب إلى الكويت مغنيا هاويا وعاد منها مطربا مشهورا، بل ظل متأهبا لاقتناص فرص نجاح أسمى. كان طموحه هو أن يبلغ درجات أعلى تضعه على قدم المساواة مع رواد الغناء الكبار المؤثرين، فأيقن أن ذلك لن يتأتى إلا بصقل موهبته عبر الدراسة الأكاديمية في معاهد الموسيقى المتخصصة، ولا سيما في مصر صاحبة الريادة في الغناء والسينما والمسرح والدراما التلفزيونية على المستوى العربي. وهكذا، فمن بعد فترة عمل خلالها موظفا في وزارة الصحة ثم في قسم الموسيقى بإذاعة البحرين (حيث ساهم في تأسيس إذاعتي الإف إم للطرب الأصيل والطرب الشعبي، قبل أن يستقيل من عمله بسبب خلاف مع أحد المسؤولين، ويظل لمدة 20 عاما بعيدا عن إذاعة بلده دون أن يدخلها إلا بعد أن تدخل صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر) عقد حبيب العزم على السفر إلى القاهرة للالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى العربية الذي أمضى في رحابه ثلاث سنوات اكتسب خلالها خبرة وثقافة واسعتين بأصول الغناء وكتابة النوتة والمقامات الموسيقية العربية، الأمر الذي مكنه من تأدية أغنيات خاصة به بعد أن كان يؤدي ألحانا لموسيقيين معروفين. غير أنه فطن إلى حاجته للمزيد من خلال الاحتكاك بعمالقة الفن المصري، فعاد إلى القاهرة مجددا ليقيم فيها سنوات طويلة ارتبط خلالها بصداقات مع نجوم الفن هناك من أمثال الموسيقار محمد عبدالوهاب، وعادل مأمون، وسعد عبدالوهاب، ومحرم فؤاد، وبليغ حمدي، وغيرهم. خلال مشواره الفني، الممتد بين انطلاقته في الكويت سنة 1966 وتوقفه عن الغناء في مطلع التسعينات، حينما غنى آخر أغانية وهي أغنية وطنية من ألحانه وكلمات نبيل الريان يقول مطلعها: «تفنن في هوى البحرين ودللها.. مثل زورق تمايل في شواطيها.. ترى البحرين تعرف اللي يواصلها»، قدم حبيب نحو 200 أغنية تنوعت ما بين العاطفي والوطني والديني، لعل أهمها: سادتي يا ساكنين منا قريب، ابتديت أزعل عليك، لو ما دلالك ما تعنينا، سقى الله روضة الخلان، سلم حتى بكف الإشارة، الحبيب الذي مال، لو كان يدري عذر، يا راصد الغيم، ساطع قمرنا، يا دهن الورد، يا سرب الطيور، أستحلفك بالله، يا سعود، سلخت عني الليالي، آه يا أهل الهوى، مريت بسكات، تمشي لكم عيني، بسل البسايل، واحسرتي، لو بغيت أضحك وأسولف مع الناس، جزاه الله من عدّى ولا سلم، يا ظبية البان، يالخلق يالتدرون بناري وعذابي، إضافة إلى أغنية «أحطك في قلبي وأقفله قفلين» وهي من الفلكلور السعودي كلمات ولحنا، وكان قد غناها قبله فوزي محسون، والمطربة السعودية عتاب. أغانٍ رسّخت اسمه في الساحة الفنية * على أن هناك أغاني معينة ساهمت في ترسيخ اسمه على الساحة الفنية وأكسبته نجومية وشهرة إضافيين منها: أغنية «عذبني المكحل طويل الهدب.. لما مرّ وسلم عجبني عجب»، وهي في الأصل أغنية يمنية من كلمات الأمير أحمد الفضل الشهير بالقومندان وغناها قديما المطرب البحريني عبدالعزيز بورقبة (توفي 1968)، لكن فناننا طورها وأعاد توزيعها فبدت شجية وحققت نجاحا كبيرا. وهناك، بطبيعة الحال أغنية «ولهان يا محرق» من ألحان يوسف الدوخي وكلمات الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة الذي كان يدرس في القاهرة وحينما تركها وعاد إلى مدينة المحرق التي ولد وترعرع فيها وجدها تغيرت وتبدلت أحوال ووجوه ناسها، فعبر عن مشاعره من خلال كلمات ترسخت في قلوب الجماهير البحرينية، بعد أن أداها إبراهيم حبيب. ويقول مطلعها: «ولهان يا محرق.. وأطوف في السكة.. محد عرفني فيج.. يا محرق إش دعوه». * وثالث هذه الأغاني أغنية «قطيرة ندى» التي كتبها ولحنها الفنان البحريني المبدع خالد الشيخ وغناها إبراهيم حبيب في أول تعاون بينهما. وقد نجحت هذه الأغنية نجاحا مشهودا بسبب كلماتها الدافئة المعبرة ومنها: أنا قطيره ندى تمشي على غصونك ليش يا صبحي تتأخر؟ أنا من رفة عيونك أخلي كل قحط يابس ربيع أخضر تمنى يا قمر صدري أنا ليلك ومن غير الصدر يا قلبي يشيلك؟ لو طفت الزمن بعيوني أشوفك لو عفت النسم اعظامي ما تعوفك بحر أنت وأنا قطره على حروفك أزين فرحتي بالنجمة واتريه مواويل الهوى في لحظة ورديه أقول الورد ما ينسى أبد عطره إذا غاب المطر القمر يرجع بعد فتره * أما أغنيته الشهيرة الأخرى التي لا يزال محبو الطرب الأصيل يرددونها إلى اليوم فهي أغنية «زرعت الطيب» من كلمات الشاعر محمد حبتور، وألحان الملحن السعودي إبراهيم دخيل العويس، وكان قد غناها قبلا الفنان البحريني محمد راشد الرفاعي بالطريقة التقليدية القديمة. وهي تفيض بمشاعر اللوم والعتاب وجلد الذات لوضع الثقة في من لا يستحقها كما في أبياتها التالية: زرعت الطيب في بعض الأراضي ولا ظنيت أنا في ذا الزرع باخسر وزرعي اللي زرعته ما نفعني أنا بسقي وهو عمال يصغر وبذري في الصبخ أنا نثرته ومافي القلب خلصته وجبر ألا يا ليت هذا ما عرفته وحبي في هوى الأنذال قصر نسى الإحسان ما بيني وبينه رمى قلبي بنار الشوق ودبر ووصل الحب من صوبه قطعته أشوف الطيب أحسن لي واستر ألا ياليت عيني ما تشوفه مادامه حي في الدنيا ويذكر أخاف أرجع تبلاني مصيبة أطيح وباقي عظامي تكسر