أنجبت الإمارات العربية السبع العديد من نجوم الطرب والغناء والعزف والتلحين، شأنها في ذلك شأن بقية شقيقاتها الخليجيات. ولعل أبرز هؤلاء محمد سهيل بن مرزوق بن هويدن الكتبي الشهير بمحمد سهيل (ولد في عجمان سنة 1931 وهاجر إلى البحرين ومنها إلى السعودية للعمل في شركة أرامكو، حيث فتح في مدينة الدمام أول محل لبيع الإسطوانات قبل أن يعود إلى دبي سنة 1968 ليؤسس محلي «صوت الخليج» و«سهيل فون»)، وسعيد سالم المعلم (من مواليد الشارقة سنة 1950)، وإسماعيل سالم محمد (من مواليد دبي سنة 1939)، وزعل خليفة خلفان (من مواليد دبي سنة 1948)، وسالم عثمان مبارك (من مواليد رأس الخيمة سنة 1952)، وجاسم عبيد (من مواليد رأس الخيمة سنة 1939)، وسعيد الشراري (من مواليد كلباء في منتصف الستينات)، ومحمد عبدالسلام (من مواليد دبي في حدود سنة 1925)، وحسين محمد قائد (من مواليد دبي سنة 1947)، إضافة إلى أول صوت غنائي نسائي في الإمارات وهي المطربة «موزة سعيد» التي ولدت في رأس الخيمة ثم هاجرت إلى البحرين وتزوجت هناك، وأخذ بيدها الفنان العماني «سالم راشد الصوري» الذي كان يقيم آنذاك بالبحرين ويمتلك فيها محل تسجيلات «سالم فون». كل هؤلاء كانت لديهم طموحات كبيرة ومواهب فنية واضحة، لم يتمكنوا من إبرازها إلا من خلال منافذ متواضعة مثل الحفلات المدرسية والرحلات الكشفية والمقاهي الشعبية. وبعبارة أخرى، فإن طموحاتهم قادتهم إلى الهجرة لدول الجوار الخليجي التي احتضنت أبناء الإمارات، خصوصاً وأن الإمارات وقتها كانت دون فرق موسيقية متكاملة للعزف، أو ساحات فنية للإشهار، أو إمكانيات تقنية للتسجيل والتوزيع، أو منصات إعلامية للانطلاق كي تساعدهم وتأخذ بيدهم وتعرِّف الجمهور على إبداعاتهم ومواهبهم. واستمر الحال على هذا النحو طويلاً إلى أن أشرقت شمس الكيان الاتحادي في ديسمبر 1971. وكانت إحدى الخطوات الأولى للمؤسس المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بعد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة هي دعوته أبناء وطنه المغتربين للعودة إلى بلادهم من أجل المساهمة في نهضتها. وهكذا عاد الكثيرون ومن بينهم المبدعون والموهوبون في مجال الفن والموسيقى لتشتعل الساحة الفنية الإماراتية إنتاجاً ومنافسة وتسجيلاً وإقامة للحفلات وتأسيساً للفرق الموسيقية. وعلى هامش هذه التطورات تمَّ ابتعاث بعض الفنانين والموسيقيين إلى الخارج، ولاسيما إلى مصر والكويت، من أجل صقل مواهبهم في معاهد الموسيقى هناك. أحد هؤلاء كان الفنان الراحل «جابر جاسم» الذي ذاق الأمرين بسبب طموحاته الفنية المبكرة إلى أن صار نجماً يشار إليه بالبنان، ليس في بلده فحسب وإنما أيضاً في الخارج. وسيرة هذا الفنان، الذي لم يعش طويلاً كي ينعم بما تحقق له من نجومية، جديرة بأن تروى، خصوصاً وأن اسمه قد طواه النسيان وسط تزاحم المطربين وأنصاف المطربين والصرعات الغنائية المبتذلة، ناهيك عن أن الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن كده وكدحه وما واجهه من صعاب. طبقاً لما كتبه مؤيد الشيباني في كتابه «جابر جاسم، رحلة الكلمة والنغم» الصادر في عام 2014 عن هيئة أبوظبي للسياحة، ولد جابر جاسم، واسمه بالكامل جابر جاسم بن جابر جاسم المريخي في السادس من أغسطس سنة 1952 في صبخة الهوامل بمنطقة ليوا في الجزء الغربي من إمارة أبوظبي، وانتقل للسكن مع أهله الذين نزحوا إلى قطر في منتصف الخمسينات (هناك مصادر صحفية عديدة تخالف هذه الرواية، قائلة إنه من مواليد 1950 بجزيرة دلما التابعة لأبوظبي). ونظراً لعدم توفر مدارس ابتدائية مجهزة بكافة متطلبات الدراسة في مسقط رأسه في تلك الفترة، فإنه درس المرحلة الابتدائية بمدرسة في منطقة دخان القطرية، ثم أتبعها بدراسة المرحلة المتوسطة في الدوحة. وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته هام حباً بالغناء، فراح يردد ما بين نفسه ما كان يطرق سمعه من أغاني الأعراس و«الشيلات» الشعبية والأناشيد التراثية، ويدندن بألحانها، ويقلد أداء أصحابها، ممنياً النفس بأن يصبح يوماً ما مطرباً مشهوراً، قادراً على تطوير تلك الأشكال الغنائية وإضافة بصماته الخاصة عليها. البداية بعمر ال11 والحقيقة أن البدايات الأولية للرجل كانت في عام 1963 من خلال مسابقة كشفية أقامتها مدرسته المتوسطة، حيث فاجأ الحضور بالوقوف على المسرح بثبات وثقة في النفس ليغني بحنجرة قوية وصوت صداح، وبمرافقة بضعة عازفين هواة، أغنية «وين ع رام الله» الشعبية الفلسطينية. أما لماذا اختار هذه الأغنية تحديداً، ولم يختر إحدى أغاني أهله وأجداده في الإمارات من تلك الأغاني الشعبية التي كان يحفظها ويرددها؟ فربما لأنه أراد أن يسعد الحضور الذين كان جلهم من المدرسين الفلسطينيين وأصدقائهم، أو ربما بوحي من أحد مدرسيه العرب. في تلك الحفلة، وكان وقتها قد تجاوز الحادية عشرة بقليل، قوبل غناؤه وأداؤه بتصفيق طويل ظل صداه يتردد في أذني الصبي الموهوب ويجعله حالماً بمستقبل فني باهر، وكان معه في المسابقة الكشفية تلك زميل دراسته ابن دبي الفنان «إبراهيم جمعة» الذي سيصبح لاحقاً رفيق دربه الفني. أنهى جابر جاسم دراسته المتوسطة وعاد إلى بلاده في عام 1966 ليبدأ مشواره الوظيفي. وقتها كان شغله الشاغل أن يقدم أغنية وطنية تليق بمناسبة عيد جلوس المغفور له الشيخ زايد. وبسبب عدم وجود فرقة موسيقية آنذاك، اقترح عليه أحد أصدقائه أن يذهب ويستعين بفرقة الشرطة، ففعل وقابل مديرها الرائد إسحاق، وتدرب معه على الأغنية التي نجحت ولاقت صدى طيباً. بعد هذا النجاح انضم إلى الفرقة الموسيقية القومية حديثة التأسيس، التابعة لوزارة الإعلام، فنال الدعم من وزير الثقافة والإعلام آنذاك الشيخ أحمد بن حامد آل حامد الذي كان حريصاً على تنفيذ توجيهات الشيخ زايد بالاهتمام بالكوادر الوطنية. وقد تجسد هذا الدعم، في تعيينه في إذاعة أبوظبي سنة 1968 في وظيفة «جامع أخبار». وبدلاً من أن يلقط الرجل الأخبار راح يلقط الجديد من الأغاني العربية والخليجية، ويستمع إليها بشغف ويرددها. ثم جاءت الفرصة التي يتمناها كل فنان مبتدئ، وقد تمثلت في ابتعاثه إلى مصر في عام 1969 ليدرس في معهد الفنون الموسيقية بالقاهرة من أجل أن يصقل مواهبه أكاديمياً. التعلم في القاهرة في القاهرة لم يتعلم فناننا الموسيقى بطريقة علمية فحسب وإنما التقى أيضاً وتعرف على ثلة من الأسماء الخليجية البارزة في عالم الطرب والغناء والتلحين ممن كانوا يدرسون هناك، من أمثال الملحن الكويتي الراحل مرزوق المرزوق (صاحب لحني «أنا الخليجي»، و«يا شمعة الجلاس»)، والملحن الكويتي الآخر يوسف المهنا، والمطرب البحريني أحمد الجميري، والمطرب والملحن عبدالرب إدريس والمطرب البحريني الكبير محمد علي عبدالله وغيرهم. وكانت جلساته الخاصة مع هؤلاء النجوم فرصة ليعرفهم على التراث الغنائي الإماراتي وتجربته الخاصة في مزج ترانيم غواصة البحر بترانيم بدو الصحراء، ويستفيد منهم لجهة كيفية تطويرها ونشرها، كما كانت فرصة ليعزز روابطه الفنية والشخصية معهم، وهو ما ظهرت آثاره لاحقاً حينما صار يدعى للمشاركة في الحفلات الغنائية في الكويت وغيرها من دول الخليج، أو يُطلب لتسجيل أغانٍ بصوته من ألحان وكلمات أطراف خليجية. وفي القاهرة أيضاً تعرف على مصر بشموخها الفني وحفلاتها الغنائية، واقترب عن كثب من أعمال عمالقة الطرب والغناء في مصر والعالم العربي من أمثال محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ، فراح يدرسها ويحفظها ويغنيها بصوته في جلساته الخاصة مع أصدقائه، وهو ما عمَّق شعوره بالطرب الأصيل وارتقى بذائقته الفنية، لكن دون أن يخفف ذلك من شوقه وانجذابه إلى ألحان أهله وناسه وتراث بلاده، التي كان متعجلا لتطويرها وتقديمها للجمهورين الخليجي والعربي. صحيح أن فناننا، حينما عاد من مصر سنة 1971، التقى بمواطنه الشاعر «عتيج بن روضة الظاهري» وتعاون معه من خلال قيامه بغناء 15 قصيدة من قصائد الظاهري العاطفية الجميلة، وصحيح أيضاً أنه أنشد أغاني أخرى في هذه الفترة من كلمات شاعرات وشعراء آخرين من أمثال: سعيد بن عتيج الهاملي، عفراء بنت سيف المزروعي، عوشة بنت خليفة السويدي، أحمد بن علي الكندي، سالم سيف الخالدي، سالم الجمري، وغيرهم. لكن كل هذا لم يعزز سوى مكانته الفنية على الساحة الإماراتية. أما مكانته الفنية على الساحة الخليجية ومن ثمَّ العربية فلم تبرز ولم تحقق له النجومية والانتشار إلا بدءاً من العام 1974. شارك فناننا في بداية سبعينات القرن العشرين في تمثيل بلاده في المحافل والمهرجانات الفنية على المستوى العربي والعالمي، مدشناً ذلك بمشاركته في أسبوع ثقافي في العاصمة اليابانية. 200 أغنية في سنواته الأخيرة كان بصدد إعادة تصوير أغانيه القديمة، لكن مشروعه لم يرَ النور لأن المنية وافته في أكتوبر سنة 2001، فغادرنا تاركاً خلفه نحو مائتي أغنية ما بين عاطفية ووطنية ودينية. وكانت آخر كلماته قبل وفاته: «أؤمن بأن الفنان إذا لم يكن لديه شيء مفيد يقدمه فليصمت، فالطيب يبقى والزبد يذهب». بقي أن نعرف أن جابر جاسم تزوج وأنجب موزة وحمد وسلامة وعبدالله وخالد الذي توفي في سن الثامنة عشرة في حادث سير. 1974.. الشهرة والمنعطف المفصلي في عام 1974 شارك باسم دولة الإمارات في الحفل الساهر الذي أقيم في الكويت على هامش دورة كأس الخليج الثالثة لكرة القدم، حيث كان التنظيم يقتضي مشاركة مطرب واحد من كل دولة خليجية لأداء فقرة غنائية مكونة من أغنيتين، وكان جابر جاسم هو المكلف بتقديم فقرة بلاده، فأبدع وأطرب وأشجى واستحوذ على حواس الحضور حينما قدم لهم لأول مرة أغنيته الخالدة (غزيِّل فلَّه.. بدبي لاقاني/ ممشط القذلة.. سلَّم وحيَّاني)، وهي من ألحانه وكلمات عتيج الظاهري. ثم أتبعها بتقديم أغنيته الخالدة الأخرى (سيدي يا سيد ساداتي.. سيدي الخود المزاييني/ راعني وارفق بحالاتي.. دامني في حبك ارْهيني)، وهي من ألحانه وكلمات الشاعر الرقيق أحمد بن علي الكندي. وهكذا كان ذلك الحدث بمثابة المنعطف المفصلي في حياته الفنية لأنه ببساطة عرَّفه على الجمهور الخليجي الذي تعرف من خلاله على نمط جديد ومتطور للغناء الإماراتي لا يقل روعة عن أنماط الغناء في الكويت والسعودية والبحرين وبقية دول المنطقة. وفي هذا السياق ورد في الملحق الثقافي لصحيفة الخليج الإماراتية (27/5/2013) أن فناننا تذكر في إحدى مقابلاته الصحفية ما حدث له في الكويت فقال (بتصرف): «قبل الغناء ولمدة أسبوع كنت أتنقل وحيداً، من دون أن يعترض طريقي أحد أو يعرفني الجمهور، لكن بعد أن غنيت صرتُ أشق طريقي في الفندق والشارع والسوق وسط إشارات الجميع إليَّ بأن هذا هو مطرب سيدي يا سيد ساداتي». وكانت حفلة الكويت تلك حدثاً مفصلياً أيضاً لأنها أطلقته إلى العالم العربي الأرحب، بدليل أن عدداً من أعلام الغناء الخليجي والعربي سارعوا إلى إعادة غناء أغانيه بأصواتهم على نحو ما فعلت المطربة المغربية عزيزة جلال في أغنيتي «غزيل فله» و«سيدي يا سيد ساداتي»، وما فعل الفنان الكبير طلال مداح في الأغنية الأخيرة. هذا ناهيك عن دليل آخر هو اتصال عدد من الملحنين الخليجيين المتميزين (مثل طلال مداح ويوسف المهنا ويوسف الدوخي والكويتية ليلى عبدالعزيز) به كي يغني من ألحانهم، على غرار ما فعله مع مواطنه وصديق طفولته الملحن الإماراتي إبراهيم جمعة. وطالما أتينا على ذكر الملحن الكويتي يوسف الدوخي، فلا مناص من الإشارة إلى أنه هو الذي لحن له أغنيته الجميلة «ضاع فكري» من كلمات عبدالله بن سلطان بن سليم. كيف طور الأغنية الشعبية؟ يحسب للفنان جابر جاسم أمران في غاية الأهمية ساعدا على خلود اسمه؛ وهما أنه طوّر الطرب الإماراتي ونقله من حالة اللحن التقليدي ذي الرتم المتكرر والعزف المستند إلى آلتين موسيقيتين في معظم الأوقات (غالبا العود مع الإيقاع)، إلى حالة اللحن العصري ذي الكوبليهات المتنوعة والتوزيع الأوركسترالي. أما الأمر الآخر فهو اقتناصه لأجود الكلمات ليلحنها ويغنيها بصوته. وبهذا أيضا طوّر الغناء الإماراتي من ناحية الكلمات، فنقله من أغاني ذات كلمات سطحية، أو أغاني في شكل حدوتة بلا هدف إلى أغاني من صميم بيئة الإمارات، متميزة بنكهة فريدة، وذات شحنة من العواطف والأشجان والصور الخيالية المؤثرة على الوجدان. ودليلنا أنه لجأ إلى النتاج الشعري للشاعر أحمد الكندي، الذي عاش اليتم والفقر والحب والحرمان وتوفي شابا في سن الخامسة والأربعين، فاختار منه أغنية "سيدي يا سيد ساداتي" وأغنية "عيونك تجبر الخاطر .. وحبك غالب الشاطر" ثم أغنية "شدوا العربان" التي يقول مطلعها " شدوا العربان بالكلي.. واتركوا ذا الروح ولهانة/ م الفراق وحر نيرانه.. مستليع وحالي اعتلي". كما اختار من قصائد الشاعر خلفان بن يدعوه قصيدة مطلعها (واحسرتي ضاق الفضا بي.. يوم أبعدوني عن حبيبي)، وراح بعد ذلك لا يغني إلا أعمالا تطرب وجدان المتلقي ويشتم منها رائحة المكان والزمن الجميل مثل أغنية "يا شوق هزينيه هوى الشوق.. هزيز غصن تاح الأوراق"، وأغنية "لدغني وداده بالحشا مثل لدغ الدول.. جرى السم في جسمي وقطع شراييني"، وأغنية "حرة بالجوف من ستين يوم.. ما تطفيها السنين الباردات"، وأغنية "سلمت لك في الحب تسليم.. واليوم أشوف منك تلزيم"، وأغنية" نسيتونا حبايبنا.. تركتونا وشغلتوا البال/ قطعتوا وصلكم عنا.. ولا كلمة ولا مرسال". الجدير بالذكر في هذا المقام أن فناننا غنى أيضا من كلمات سمو الشيخ زايد رحمه الله وألحان علي كانو أغنية عاطفية مطلعها "يا خفيف الروح كيف إنتو .. يا شفا قلبي من أعراقه/ إرحموني لو تكرمتوا .. بالوصل وأنا من اشفاقه"، وأغنية عن القنص مطلعها "يا طير وضبتك بتدريب .. أبغى أصاوع بك هدادي". * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين