معظم صُور الخطاب الثقافي/ المعرفي والأدبي، الرائجة في عالمنا العربي منذ سبعين عاما أو أكثر، مشحونة بالأيديولوجيا إلى درجة تكاد تنتفي عنها صفة الثقافي/ المعرفي بالكلية. الهَمّ الأيديولوجي يلتَهِمُها في كل مراحل تشكّلها، يستولي على ألْبَابِ الفاعلين فيها؛ فيُحَوِّلهم -ويُحَوِّلها من وراء ذلك- إلى مجرد أدواتٍ/ وسائل لتفعيل القناعات المُسْبقة التي سبقت إلى الوعي -كما إلى الواقع- وتحقّقت فيهما بلغة الإيمان، الإيمان المُتَشكّل بفعل الأهواءِ والمصالحِ، وبقوة قانون التّغالُب/ التدافع، لا بلغة السؤال والبحث والاستشكال. طبعاً، لا تكاد فعالية معرفية تُفْلِت من قبضة الأيديولوجيا. ثمة جُرْعة -تقل أو تكثر- من «الأدلجة» كامنة في كل خطاب معرفي، بل وفي المضمر العميق من كل خطاب علمي (ليس فقط من حيث هما «إرادة سلطة»)، حتى لقد تحدّث كثيرون عن المضمر الأيديولوجي الخفي في التقنية ومنتجاتها؛ أي في المعطيات المتحققة التي تبدو وكأنها تتمتع بأعلى درجات الحياد من ناحية افتراض التجرد من الهم الأيديولوجي. لكن، إذا كانت «الأدلجة» ضربة لازب؛ كما يقال، أي إذا كان الانفكاك منها -بالكلية/ بالمطلق- مستحيلا، فما مشروعية هذا التثريب على الخطاب العربي بوصفه باللاّعلميّة/ اللاّمعرفيّة، من حيث هو خطاب مسكون بالهم الأيديولوجي؟! هنا نأتي لمسألة «النّسبة الفاصلة»؛ إثباتا ونفيا. بمعنى أن المسألة نسبية، وكونها نسبية لا ينفي أن ثمة نسبة ما، تكون هي عتبة الفصل بين المقبول وغير المقبول معرفياً. الطالب/ الدارس حتى في أشد التخصصات العلمية دِقّة/ موضوعية ينجح، بل وينجح بامتياز، لا لأن كل إجاباته ونتائج اختباراته القولية والعملية كانت صائبة تماماً، وإنما لأن نسبة الخطأ/ الزلل المعرفي كان قليلاً قياساً بالمستوى العام من حضور الصواب، وبالتالي لا يؤثر هذا القليل (المَعروف، والمُقدّر، والمُتوقّع) في مطلق الإجابات من حيث نجاعتها في المحصول الكلي، إذ حتى الإنسان كل الإنسان، بوجوده/ بحضوره: الوعي الإنساني بذاته وبفعالياته، هو نسبي في سياق تعالقه مع مطلق الوجود. إذن، نحن إذ نتعرّف على مخاتلة الأيديولوجيا لخطاباتنا المعرفية/ العلمية، فإنما نفعل ذلك لمزيد من الوعي بها. نحن ننشط للوعي بها، لا لننفيها ونزعم أننا قد تجرّدنا منها تماماً، وإنما لنُحَقّق -في هذا المسار بالذات- هدفين أساسيين، لا يلتفت إليهما المؤدلجون ولا يبالون بهما: 1 الوعي بها، يعني الوعي بخطر الأيديولوجيا، وأن ارتهان الخطاب العلمي لها يقضي عليه بالتنازل عن هويته العلمية، نِسْبة وتناسباً، فكلما تأدلج الخطاب تضاءلت علميّته حتى يصل في بعض الأحيان حدّ أن يكون خطابا مناقضاً/ مناهضاً للعلم بالعلم، أو -بتعبير أدق- بما يُتَوهّم علماً. وهذا الوعي هو ما يجعل الذات الفاعلة/ المتفاعلة مع سياقات الفعل المعرفي تنشط -وبوعي تام- لتُحَايِثَ فِعلَها المعرفي بمحاولةٍ دؤوبةٍ تستهدف تحجيم التسلل الأيديولوجي المتربص دائماً وأبداً بكل صور النشاط الإنساني. 2 الوعي بها وبمكامنها ومكائدها، فإن تعذّر تحجيمها بمستويات عالية، فإن ما بقي منها يُتَعامَل معه كعَرَض لازم، كمَرض مُزمن، أي يُتَعامل معه عن طريق الوعي بحقيقته، وبالمضاعفات المؤكدة أو المتوقعة، المرافقة لحضوره في الخطاب. فإذا تحقق مثل هذا الوعي، فإننا نعرف حدود هذا الخطاب وإمكانيته، نعرف ما يستطيعه حقّاً، وما لا يستطيعه، فلا نُكَلّفه أكثر من طاقته، ولا ندفع به للفعل في مجالات يتعذّر عليه (يتعذر عليه بحكم طبيعة مستوى أدلجته/ أمراضه المزمنة التي يجب أخذها في الاعتبار) أن يفعل فيها ولو بالحد الأدنى من شروط التحقق الإيجابي/ النجاح. هذا ما نستهدفه من محاولتنا تعرية الاختراق الأيديولوجي الذي شوّه/ دَمّر كل صور خطابنا المعرفي، ومن ثمَّ؛ شوّه/ دَمّر وعينا العربي العام. هذا الاختراق حوّل خطابنا الثقافي العام -الذي يُفترض أنه معرفي من حيث الهُويّة المُدّعاة ابتداءً- إلى صورةٍ حديثة من نقائض جرير والفرزدق، أو من فخريات عمرو بن كلثوم بالأنا الجمعية، ومن فخريات المتنبي بالأنا الفردية، وربما هبط هذا الخطاب أكثر؛ ليتولى المهام المنوطة بالوكالات الإعلامية/ الإعلانية التي تمتهن التلاعب بالعقول. يمكن لأي مهتم أن يلحظ هذا الاختراق الأيديولوجي بمجرد أن يقارب «البحوث العلمية» التي نكتبها، أو تُكْتب تحت إشراف جامعاتنا ومراكز أبحاثنا، خاصة تلك البحوث التي لها علاقة وطيدة بالذات/ بالأنا الجمعية أو ما تقاطع معها. لن تعثر في تلك «البحوث العلمية» التي يُفترض فيها التجرّد للمعرفي أي نقد ذاتي جذري، لن تجد إلا تمجيداً للتاريخ ولرموز ذلك التاريخ، وتهويماً في فضاء حضاري موهوم يراد له الآن -بعد رحلة الألف عام- أن يكون مَجْداً حقيقياً قائماً في يوم من الأيام. خطابنا المعرفي الذي يَتشكّل على وَقْع الإحساس الحادِ الحارقِ بالقهر الحضاري؛ يتحوّل -بالضرورة، ومن حيث يعي أو لا يعي- إلى محض أغنية إيديولوجية خائبة. نُؤَلف الدراسات عن أسلافنا، عن مقدسي أولئك الأسلاف، فتتحول تلك الدراسات إلى قصائد نثرية، تنطق بلغة/ بتقنيات منطق العلم، دون أن يكون للمنطق العلمي مكان فيها، فنتائجها دائماً ما تكون مدحاً مجانياً للذات، أو هجاء أهوجَ للآخر. وهي -على كل أحوالها- نتائج قد تقرّرت سلفاً، فلا جديد، إلا مزيداً من التأكيد الببغائي على المعروف عُرْفاً بلغة الإيمان والوجدان، لا بلغة البحث والبرهان. هكذا يصل الوعي العربي إلى درجة «الخَبَل» حقيقة، لا مجازاً. هكذا يُغتال العقل على يد خطابات تدّعي الانتساب إلى العقل بدرجة ما. وتكون النتيجة «إنساناً عربياً» يتفاعل مع واقعه القريب والبعيد، مع ذاته ومع العالم، بمنطق طفولي بدائي غرائزي مُنحاز، بينما هو يتوهم أنه يتصرّف بمنطق عقلاني محايد. ولا غرابة حينئذٍ -والحال كذلك- أن يعتقد هذا الوعي العربي أن كل خطاب معرفي لا يقول ما يريده هو خطاب زائف متآمر، وأن كل وسيلة إعلامية لا تتحدث بما يريده، هي وسيلة إعلامية منحازة، بل ومتآمرة، حتى لو كان رصيدها من الثقة يمتد لعشرات السنين، وحتى مراكز الأبحاث الموثوقة عالمياً تصبح في موضع اختبار على محك انحيازه الأيديولوجي الضيق، إن وافقته فما تقوله بَحثٌ وعِلمٌ وحَقٌ وحقيقة، وإن لم توافقه فهي عَبثٌ وجَهلٌ وتزييفٌ وافتراء.