ماذا لو ارتديت «المريلة»، ووضعت غطاء الرأس وارتديت القفازين، وقدمت طلبات الزبائن في أحد المطاعم الشهيرة في جدة، أو كنت محضرا للوجبات السريعة، أو حتى محاسبا أقف خلف جهاز «الكاشير». تجربة أود أن أخوضها خاصة بعد أن أصبحنا نرى الكثير من الشباب السعودي في تلك المطاعم الكبرى المحلية والعالمية.. لعل حماسهم الذي نراه وجديتهم في التعامل اللبق مع الزبائن يكون خلفه مردود مالي جيد، أم أن هناك أسبابا أخرى؟ قررت بعد التنسيق مع زميلي المصور أن أبدأ.. ولكن للأسف بعد أسبوعين متتاليين من المحاولات والاتصالات بالمطاعم وصلت إلى حافة اليأس، وأوشكت أن أغلق ملف المطاعم وأضعه جانبا، باحثا عن فرصة عمل في قطاع آخر. فجميع المطاعم التي خاطبتها طالبا منها الموافقة على منحي فرصة العمل والتدريب لفترة مؤقتة، رفضت. قد يكون الخوف من النقد الصحفي سببا، وقد تكون بيروقراطية الإدارات سببا أيضا، خاصة المطاعم العالمية التي عادة ما يكون مقرها الرئيسي خارج المملكة. وبعد اليأس، وصلتني رسالة عبر «الواتساب» ترحب بي عاملا في مطعم محلي شهير، متخصص في بيع وجبة «الهمبرغر». الموعد: الخميس الساعة السابعة والنصف. المكان: فرع حي النسيم بجدة. رائع.. سأقوم بالمهمة بعد يومين من الآن. وسأطلع عن قرب على تجربة الشباب في المطاعم، وما يجلعني أكثر تفاؤلا بأني سأطلع على أكثر تجربة تجارية قامت على أيدي شباب سعوديين، سواء المالك أو العاملين، فالمطعم سعودي 100%. وما يدعو للبهجة أكثر هو أن الموعد تزامن مع ليلة إجازة، ووقت يقترب من الذروة، لأكون على موعد مع تجربة فريدة وشيقة. أخبرني الشاب مصعب الزهراني، موظف العلاقات العامة، وهو شاب طموح ولطيف للغاية، لا يتجاوز ال22 من العمر، بأن العاملين السعوديين في الفرع الذين سيشرفون على تدريبي لم يعرفوا بالمهمة التي أخوضها، كي تكون التجربة واقعية أكثر، وسيتعرفون على مهمتي عند زيارتهم. وصلت في الموعد المحدد، الكاميرات تعمل على توثيق اللحظة منذ أن استقبلني مدير الفرع، سعيد العبدلي، وهو شاب في ال20 من عمره أيضا، ومعه المنسق والمرافق مصعب الزهراني، وبعد الترحيب، فضّلا كسب الوقت والبدء في العمل، خاصة أننا في يوم إجازة والإقبال سيكون كبيرا. طاهٍ في أشهر مطاعم «الهمبرغر» كيف سأبدأ المهمة؟.. لا أعرف، لذلك سبق الأمر اجتماع قصير بمدير الفرع، الذي بدأ يشرح لي المراحل التي يمر بها أي موظف جديد، إلى أن يصل إلى المرحلة الأخيرة التي تتطلب ممارسة طويلة وتدريبا جيدا. إذن سأبدأ بالمرحلة الأولى، وهي التعرف على أقسام المطعم كما قال لي العبدلي، «أخي في البداية يجب أن تعرف أقسام المطعم، ليسهل عليك تنفيذ أي مهمة تطلب منك حتى لو كانت سهلة»، ذلك يعني أن الشاب المقبل على العمل في المطعم يجب أن يعرف كل قسم من أقسامه ومحتوياته والعاملين فيه. لتبدأ مهمتي.. والبداية كانت من قسم المستودع، ويحتوي على مغلفات الوجبات والمشروبات، ثم قسم المجزرة، وفيه يتم تقطيع اللحم وفرمه وتكويره، ثم إلى القسم الأهم وهو قسم إعداد الهمبرغر، وهو يتفرع إلى عدة فروع، الأول، قسم استلام فاتورة الطلب، وفيه يتم تحضير الساندوتش حسب طلب العميل، وبعده وضع اللحم، والأخير تغليف الطلب وتسليمه. العمل الأسهل سألت عن المرحلة السهلة التي أتمكن من خلالها من التدرج في مهمتي، ولكن للأسف فكل المهام التي اطلعت عليها كانت تحتاج لمزيد من التركيز والعمل الجاد. فاخترت «الكاشير»، ولكنها أكثرها أهمية، فالموظف الواقف على الكاشير لديه رقم سري خاص به، يتم من خلاله رصد كل الحسابات التي أدارها في فترة عمله، وهنا يتحتم عليّ التركيز في اختيار الوجبة المطلوبة من الزبون، وتحديد سعرها والإضافات المطلوبة، ثم تتم عملية الحساب والدفع، والضغط على زر الأمر لتصل الفاتورة لقسم تحضير الوجبة. رغم أن مهمة «الكاشير» سهلة في ما يبدو، خاصة بعد أن منحت البرمجة الحديثة المحلات سهولة التعامل مع الحسابات، الا أن الأمر يتطلب من الشاب التركيز في العمل، كما يتطلب الصبر على الزبائن، فهي المهمة الأصعب التي تواجه من خلالها أمزجة الزبائن باختلاف طبائعهم. تكوير اللحم غالبية الشباب السعوديين العاملين في المطعم كانت أعمارهم لا تتجاوز ال25، وبعضهم بدأ العمل في المطعم مع بداية إنشائه، أي قبل 3 سنوات تقريبا، واللافت للنظر أنهم جميعا يملكون نفس الحماس والتفاؤل، قالوا لي إنهم جميعهم قد مروا على جميع مراحل العمل حتى مصعب وهو أخصائي العلاقات العامة، فقد بدأ هو أيضا محضرا للطعام، وعمل في قسم المجزرة، ومحاسبا أيضا. إذن سأعمل بجد لإنهاء كل مراحل العمل، رغم قصر المدة الممنوحة لي. أنا الآن في داخل قسم اللحم، ثلاجات كبيرة، ولحوم معلقة وأخرى مفرومة، وأمامي ميزان لقياس حجم محدد للساندويتش الواحد. أقوم بتكوير اللحمة بطريقة معينة، ثم وزنها بميزان محدد، لا ينقص غراما ولا يزيد. إعداد الوجبة المرحلة الأكثر تعبا، هي في الزاوية التي تستقبل فيها طلبات العملاء، وتعمل على إعداد الوجبة، وتجهيزها قبل المرحلة الأخيرة للتجهيز، فخلفي «الشيف»، وأمامي محتويات الساندويتش، من أجبان وخضار، وفوجئت بعد دقائق من العمل، بأن «شيف الشوي» هو شاب في ال24 من العمر، لا يزال في مقاعد الدراسة الجامعية وتحديدا في السنة الثالثة، تخصص علم نفس، يعمل بنظام جزئي، وملزم ب4 ساعات مسائية لشواء اللحم، مقابل مبلغ مالي جيد، عرفني عن نفسه، «اسمي محمد الشمراني، التحقت بالعمل منذ أكثر من عام، تدربت على الشواء، وهو العمل الذي يتطلب تدريبا مكثفا، ومهارة عالية في الأداء، للحفاظ على الجودة»، مؤكدا أيضا أنه بالدخل الشهري من العمل يوفر كل احتياجاته، ومستمتع به كثيرا. ولكن يبقى السؤال الذي أبحث عن إجابته في كل تجربة عمل، هل العمل في هذه المهنة مجزٍ؟ وهل يساعد في بناء أسرة، أتطلع من خلالها لمستقبل مشرق؟ ما إن طرحت سؤالي على السعوديين العاملين معي، حتى أشاروا إلى محمد أبوحبابة، وينادونه «أبو يوسف»، قالوا إنه شاب بدأ حياته العملية هنا، واستقر به الأمر إلى الزواج بعد توفيق الله، وأنجب طفلا أيضا، فتحدث أبوحبابة «بدأت في هذا العمل متطلعا لتكوين أسرة، ولو لم أجد مردودا جيدا لما استمررت في العمل، وهناك غيري من الشباب الذين كونوا أنفسهم من خلال العمل في المطاعم»، مؤكدا أن العمل في المطاعم كان في السابق «عيبا اجتماعيا»، ووظيفة لا تليق بالشباب السعوديين، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالعمل شرف في أي مكان، وخاصة إذا كانت الجهة التي تعمل فيها كبيرة وتوفر لك الأجواء المناسبة للبذل والعطاء. فيما يروي حسين العبدلي قصة الشباب العاملين في المطعم، فيقول: بدأ المشروع بأيدي شباب سعوديين، من ملاك وموظفين، وكان حينها منظر العاملين السعوديين في المطاعم غير مألوف، ولكن عمل الجميع بطموح كبير، فصعدنا جميعا، نحن والمشروع نفسه، ليتحول المطعم إلى شركة من أكبر شركات المأكولات السريعة في السعودية، وقدّر أصحاب الشركة تفانينا في العمل، فكبرنا وظيفيا معهم. نهاية المهمة تغليف الوجبة وتقديمها للعميل، هي آخر مراحل عملي في المطعم، ومنه سأغادر بتجربتي إلى منزلي، وأنهي ملف المطاعم بيوم مثير، زاملت خلاله عددا من الشباب السعوديين الذين لم أتوقع حماسهم بهذه الطريقة، فلماذا يعملون طوال السنوات ال3 وبحماس ملحوظ؟ لتخرج الإجابة من الشباب؛ محمد ناصر، وتركي خالد، وعمر حملاوي «بيئة العمل أساس استمرار السعوديين في السوق، وهذا ما وجدناه في مهنتنا الحالية»، كما أكدوا أن الراتب المجزي سبب جوهري لخلق بيئة جاذبة للشباب، إضافة إلى الحوافز التقديرية، مؤكدين في حديثهم أيضا، أنها عنصر مهم يشجعهم على البقاء في عملهم الحالي، وهم في الشركة الحالية يتقاضون حوافز توازي إخلاصهم في العمل، فالمادة مهمة، خاصة أنها تساعدهم في تحقيق تطلعاتهم المستقبلية. ولكن المشكلة التي ستواجه قطاع المطاعم هي قلة المعاهد التي تدرب الشباب على الطهو وإعداد الأطعمة وتقديمها، مما يدفع الكثير من الشباب المستجدين في المهنة إلى العمل في بعض المطاعم بمقابل مادي ضئيل من أجل اكتساب الخبرة.