المجتمعات مهما صغرت أو كبرت، لها قواسم وخصائص مشتركة، وأهم هذه الخصائص هي أنه لا بد من زعامة تمارس النفوذ على تلك المجتمعات وتحتكر لنفسها السلطة، عبر إجبار الآخرين على الخضوع لها والسير على نهجها، مستخدمة في ذلك أساليب الترهيب والترغيب أو القتال حتى يدين الجميع له. وتختلف الزعامات بحسب الأشخاص الذين يتصدون لها، وفيما إذا كانوا ميالين نحو العنف والظلم أو العدالة وإحقاق الحق. وإذا كانت القوة تقف مع المتزعم دائما، والتي من خلالها يفرض نطاق سيطرته ونفوذه، فإن الذكاء غالبا ما يقف خلف أفراد المجتمع في قضية التعامل مع تلك الزعامة، وهذا الأمر قد يكون جليا أكثر في حال وجود زعامتين أو أكثر، حيث يتيح ذلك للأفراد حرية أكبر في التعاطي مع الزعامات للحصول على المكاسب، التي قد لا تقل عما يحصل عليه الزعماء. وكما أسلفت، فإن الذكاء يفعل فعلته في هذا الموضوع، فإما تكون خاضعا وإما ندا للزعيم. ومع أن المجتمع الدولي يمثل صورة أكبر وأكثر تعقيدا من مجتمعنا، إلا أن الأسس تبقى واحدة وإن اختلفت صورها. والتاريخ الدولي شهد مختلف الزعامات التي امتدت ظلالها لتشمل كافة أصقاع العالم، لتنتهي بين ثنايا كتب التاريخ وحكايات الشعوب. ومع كل زعامة دائما ما نجد شخوصا لهم تأثير في الأحداث قد لا يقل تأثيرا عن الزعيم نفسه، إن لم يتفوق عليه في كثير من الأحيان، بل إن الموضوع يكون ممتعا بصورة أكبر عندما تقرأ قصص هؤلاء المؤثرين في ظل زعامات طاغية، حيث تبث حكاياتهم الأمل في روح القارئ وتبعده عن رتابة قصص القادة ومغامراتهم. وإذا ما شهد تاريخنا ظهور زعامات دولية عديدة من بابلية وفارسية ويونانية وعربية وإسلامية وتركية ومغولية وبريطانية مروراً بالسوفيتية- الأمريكية، فإن الزعامة الدولية اليوم يتنازعها الأمريكيون مع الروس، لما لهما من الحلفاء ومن قوة السلاح الفتاك الذي تحمله جيوشهما الجرارة. وفي زمن الغلبة للقوي، فإن السيف أصدق إنباء من الكتب، ولا تدانيه قوة في إخضاع الغير له تحت ظل القانون الدولي الذي يكتبه المنتصرون. والدول تختلف في وضعها الخارجي تبعا لأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فإما أن تقف مع إحدى هاتين الزعامتين في أزمة ما، فمعنى ذلك أنك مناوئ للزعيم الآخر، وإما أن تكون صديقا للاثنين معا، وهو موضوع صعب ويستدعي التوقف والسؤال: كيف لك فعل ذلك؟ ومن هنا تعرف السياسة والساسة، وتوضع النظريات في هذا الفن الذي يمارسه أغلب الناس ويحترفه القلة منهم. فنظرية إن لم تكن معي فأنت ضدي تحطمت ورمت بها سياسة المملكة عرض الحائط، حيث استطاعت مصافحة الزعامتين العالميتين في آن واحد وفوق أشد أماكن العالم خلافا بينهما، حيث الأزمة السورية، والتي شقت العالم إلى نصفين غربي وشرقي. فعلى حبل التوازن بين القوتين سقط الجميع، فكيف استطاعت المملكة عبوره بيسر وسهولة دون حتى الترنح على الحبل، في الوقت الذي ترنح فيه الجميع؟ السياسة فيها الكثير من الأسرار التي قد لا يسبر أغوارها إلا أهلها، لكن مع ذلك فإن محاولة فك رموزها قد تبدو ممتعة وفي نفس الوقت فيها مشقة. فأي شيء قابل للدراسة ويمكن أن يستفاد منه كسابقة تاريخية تعود بالنفع على ساسة المستقبل، حري بنا وضعه تحت المجهر وإمعان النظر فيه. قد تكون قدرة المملكة على مصافحة الخصوم المتناحرة في آن واحد، هي الثقة بالنفس وبالمكانة التي لها في قلوب ما يربو على مليار مسلم، ناهيك عن السياسة الواضحة التي تنتهجها دون مواربة أو أساليب ملتوية، مما جعل الأعداء قبل الأصدقاء يثقون بها. فهي وإن كانت تختلف مع روسيا بشكل كبير حول الملف السوري، إلا أن العلاقة بينها وبين روسيا لم تتأثر بهذا الخلاف، إيقانا من الطرفين بأهمية الطرف الآخر في الساحة السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية. بل فاقت أهمية المملكة العربية السعودية لروسيا أهمية الكثير من حلفاء موسكو، من الذين تربطهم علاقات تاريخية واجتماعية وسياسية مع روسيا الاتحادية، وخير شاهد على ذلك التوتر الكبير الحاصل بين روسيا وإسرائيل على خلفية إسقاط الطائرة، التي تعتبر القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث إن للموضوع خلفيات كثيرة تعود إلى فترة ما قبل الحادث الأخير. وباعتقادي، أن ذلك يشير إلى مسألة التفوق العربي في السياسة الدولية على السياسة الإسرائيلية التي يضرب فيها المثل عالميا. فكلما اشتدت الأزمة حول سورية بين المعسكرين المتحاربين، نرى عين موسكو دائما موجهة نحو الرياض، والأخيرة لها القدرة على فهم ما تفكر فيه موسكو والإمكانية الكبيرة في التعامل مع هذه الأفكار بشكل يرضي الروس ومن دون الإخلال بثوابت السياسة الخارجية السعودية، وهذا ينبع من فهم الرياض العميق للعبة التوازنات الدولية. إضافة إلى أن روسيا كقطب عالمي تبقى أقرب للمملكة من باقي الزعامات الدولية، بحكم العامل الاقتصادي، حيث تشكل المملكة وروسيا أكبر منتجي النفط في العالم، وبالتالي بيدهما مفاتيح الأسعار والقدرة على إخضاع الدول اقتصاديا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن روسيا الاتحادية تضم جمهوريات مسلمة، وهذه الجمهوريات لها تأثير على توجهات السياسة الخارجية الروسية، حيث تحرص تلك الجمهوريات على إبقاء العلاقة الطيبة قائمة بين الدولتين وبغض النظر عن الخلافات القائمة حول السياسة الدولية. هناك اليوم من يخطط في أن يكون العالم تحت زعامة واحدة ومطلقة، وسوف يتنافس عليها الكثيرون، وهذه المنافسة قد تنتهي بالنزول إلى حلبة الصراع والمواجهة، وعندما يصطدم الأقوياء، فإن لكماتهم قد تكون عشوائية وتقضي على من يقف خلفهم. وحتى يسقط أحد الخصوم المتنافسين، فإن الكثير من المشجعين سوف يكونون في الماضي، ويبقى فقط من فهم لعب التوازن الدولي، منطلقا من ثوابت راسخة ومتغيرات لا تمس الجوهر. المهم في الموضوع هو أن المملكة تفهم ذلك جيدا وتمارس سياسة تتصف بالمرونة والشفافية مع موسكو، مع القدرة على إزالة أي توتر قد ينشأ على خلفية قضية ما. والسؤال الآخر هو كيف تنظر الولاياتالمتحدة إلى هذه العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا؟ أقول مرة أخرى، إن وضوح السياسة الخارجية السعودية، والمقامة على ثوابتها التي لا تتزحزح، لهي كفيلة في جعل واشنطن تغض الطرف عن أي اتفاقات تعقد بين موسكووالرياض. كما أن الدور القيادي للمملكة في الشرق الأوسط، بات يشكل ضاغطا على الأقطاب الدولية، تفرض معه المملكة على تلك الزعامات أمورا كثيرة، وتحملها على تنفيذ توجهاتها. كما أن موضوع الندية في التعامل مع الزعامات الدولية أصبح سمة بارزة في السياسة الخارجية السعودية، والتي جعلت منها إحدى الفواعل الدولية التي تشارك في وضع الإستراتيجيات والسياسات العالمية. ولما كان المال اليوم يمثل أحد أهم عناصر التأثير الدولي، إذا ما استثنينا السلاح والذي هو الآخر يقوم على التوافر المالي، فإن المملكة دائما ما تضع الخطط والبرامج المستقبلية لضمان ديمومة المال، وبالتالي تضمن المملكة حضورها الخارجي كمؤثر دولي وليس تابع لسياسة أحد الأقطاب، مستفيدة من الأسس المتينة التي بنيت عليها، والتحديثات الكبيرة في سياستها الخارجية، التي تتماشى مع المتغيرات الدولية دون المساس بثوابتها الوطنية، وهذا ما يؤهلها في أن تكون سيدة المنطقة دون منازع، خصوصاً وأن الجميع بات يترنح على إيقاع المتغيرات الدولية. وعلى هذا الأساس، حافظت المملكة على بنائها رغم الهزات الكبيرة التي ضربت العالم والتي سوف تضربه في قادم الأيام. * ينشر هذا المقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»