نعيش اليوم في واقع معقد متشابك. وهذا التعقيد شامل لجميع المستويات، ويزداد تعقيدا إذا نظرنا إلى طبيعة الخطاب الإسلامي الذي لا يساير المستجدات، بل منكفئ على ذاته وغير منفتح على الآخرين. ولعله من الحيف أن ننظر إلى الواقع من زاوية واحدة، أو معالجته بالاقتصار على منظور واحد، بل يجب أن تتعدد زوايا النظر وتتنوع المنظورات لحل عقد هذا الواقع وللارتقاء بالخطاب الإسلامي المعاصر. ولعله إذا ارتقينا بالخطاب الإسلامي فإننا سنقطع شوطا لا بأس به في حل تلك العقد. لذا نتساءل: ما هي مداخل تجديد الخطاب الإسلامي؟ هذا ما ستحاول هذه المقالة الإجابة عنه بنوع من الإجمال، في انتظار إمكانية التفصيل فيها لاحقا. 1- مدخل فقه التربية: إن المدخل السلوكي، أو التربوي، أو الإحساني، يؤطر للإنسان مهمته في هذه الحياة ويحدد مصيره ويذكره بأصله. وهذا المدخل نجد مشروعيته في الحديث الشريف الذي يرويه الفاروق رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (الحديث). هذه هي مراتب الدين ودرجات العبودية لله تعالى. وإذا كان في سرادق تراثنا ما يسمى بعلم العقائد فإنه تاه في مناقشات عقيمة ومجادلات بعيدة عن الأصل، بل كانت تفرغ القلوب من معاني الإيمان من حيث يراد تثبيت العقيدة. وهكذا يصبح من أساسيات المدخل التربوي إعادة النظر في ما سمي بعلم العقائد، أو علم التوحيد، لرده إلى الأصل الذي يشير إليه الحديث النبوي السابق. كما أن ظهور ما سمي بالتصوف لم يكن إلا دليلا على حاجة الناس، قديما وحديثا، إلى ما يمكن تسميته بعلم السلوك أو علم الإحسان، رغم أنه لم يعكس الصورة الحقيقية لمضمون الحديث الشريف، فانعزل الناس بحجة الزهد والتزكية تاركين غيرهم في قبضة الفتن والظلم، لتتمكن في الخطاب الإسلامي ظاهرة الخلاص الفردي وتعم منحرفة عن أصول الإسلام. وتتجلى خصائص الأمة الجديدة التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في العدل والحلم والحفاظ على وحدتها والدفاع عن أنفسهم في حالة الهجوم عليهم. ولا ننكر صعوبة المهمة، حيث تتطلب التربية وقتا طويلا لأن روح الجاهلية متمكنة من قلوب المسلمين بفعل البيئة التي نشأوا فيها قبل الإسلام. لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم من خلال سلوكه الذي يعتبر قدوة للمسلمين، كما ربى من خلال توجيهاته التي تعتبر نبراسا للمسلمين في كل زمان ومكان 2- مدخل فقه الكتاب والسنة: تكلم علماؤنا الأجلاء باستفاضة عن ضرورة العلم بالكتاب والسنة لخصوص الأمة وعمومها، وذلك لأنهما الطريق إلى معرفة الله عز وجل ومعرفة شرعه والعمل به لتحقيق الغاية: ﴿ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات 56). ومن علم الكتاب العلم بما أُنزل وعلى من أُنزل ولماذا أُنزل، والعلم بما يساعد على فهم كتاب الله تعالى وأحكامه المتضمنة فيه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والسنة هي النموذج العملي لكتاب الله بمختلف مراتبها. وهكذا تبدو الضرورة ملحة لمعرفة سيرة من كان قرآنا يمشي على الأرض صلى الله عليه وسلم، ثم معرفة الرجال الذين اقتفوا سيرته ونهجه رضي الله عنهم. كما تدعو الحاجة اليوم إلى علم لم يأخذ حقه في الفكر الإسلامي، وهو علم أسباب ورود الحديث الشريف، وذلك لاهتمام علمائنا رضي الله عنهم بالنظر في سند الحديث وتصحيح وفحص رجاله. وهذا العلم إن أعطي حقه فسيقلل إلى حد بعيد من الخلافات والنزاعات بين الناس، وبين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين وغيرهم. ومما له علاقة بأسباب ورود الحديث الشريف ترتيب تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وفق الصفة التي تصرف بها، قولا وفعلا وتقريرا، إذ هذا من أسس المنهاج النبوي. إن غايتنا من العلم بالكتاب والسنة معرفة أحكام الله تعالى المحققة للاستخلاف، ونضيف هنا أن الحاجة ماسة إلى استخلاص منهاج للفهم وفق التصور العام الاستخلافي. 3- المدخل المقاصدي: يقرر الشاطبي، رحمه الله، أن الغاية من وضع الشرائع إنما هي مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة. وعلى هذه النقطة بنى بحث مقاصد الشريعة، في النص الأول. ثم يزيد موضحا أن الشريعة إنما وضعت من أجل تحرير الإنسان من الخضوع للهوى، هواه هو أو هوى غيره، كائنا من كان، والخضوع لله سبحانه وتعالى اختيارا واضطرارا. وقد قسم العلماء المقاصد إلى مراتب كما هو معلوم: ضرورية وحاجية وتحسينية؛ فالمقاصد الضرورية لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. وهذه الضروريات خمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهي الأصول المحققة للاستخلاف. وأما المقاصد الحاجية، فهي ما يحتاج إليه الناس من أجل التوسعة ورفع الحرج، وسير الأمور على أحسن وجه، «فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة». وأما المقاصد التحسينية فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، وما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم. ومنها ستر العورة، وآداب الطعام، وغير ذلك... إن ترتيب هذه المقاصد يعني أولوية إحداها على الأخرى، ولذلك كان الضروري مقدما على الحاجي، والحاجي مقدما على التحسيني... وقد ازدهرت الكتابة في مقاصد الشريعة في عصرنا هذا، حتى تكاد تكون السمة المميزة للفكر الإسلامي المعاصر. وقد تعددت هذه الكتابة ما بين دراسات موجزة في مجلات ودوريات وبين أبحاث معمقة مستفيضة تحويها كتب ومؤلفات. والملاحظ في هذه الكتابات أنها انصرفت إلى: - الاقتصار على المصالح الدنيوية دون الأخروية، وهذا عكس ما ذهب إليه الشاطبي رحمه الله من تلازم بينهما... - ثم إن البحث في حظوظ المكلف لم يوفّ حقه، بل لا نكاد نجد شيئا ذا بال عند من جاء بعد الشاطبي رحمة الله عليه الذي جعل المقاصد نوعين: فيما يرجع إلى مقاصد الشارع، وما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف، وهذا قسم نفيس يحتاج إلى شرح وتفصيل. - وجنحت إلى الكلام عن المقاصد باعتبارها أداة من أدوات الاجتهاد الفقهي، في حين أن المقاصد ينبغي أن تصبح سلوكا عاما في الفكر الإسلامي، وفي العمل الإسلامي المعاصر... وما يعانيه العمل الإسلامي اليوم إلا من غياب المقصد من توجهاته. وقلّ ما نجد الكلام عن المقاصد باعتبارها سلوكا ينبغي أن يطبع العمل الإسلامي وسلوك الأفراد، لتحقق بذلك المقصدية للفكر الإسلامي. ولعل هذا ما يقتضي جهودا متضافرة تنتقل بالمقاصد من الأفق النظري إلى الواقع العملي. 4- مدخل فقه الواقع: إذا كنا قد أشرنا إلى المداخل العلمية الأساسية لتجديد الخطاب الإسلامي فإنه من السذاجة أن تكون منحصرة في هذه الثلاثة، غافلين عن الواقع اليوم الغني بما وصل إليه العقل البشري من علوم ومستجدات في مختلف المجالات. من هنا، فتجديد الخطاب الإسلامي يحتاج أيضا إلى فقه الواقع، وليس فقط لما ذكرنا، ولكن لما رُكب عليه هذا الأخير من انحراف عن منهاج النبوة دام قرونا طويلة، وللفجوة التي حدثت بين الشريعة والواقع، التي كانت نتيجة توقف الاجتهاد، وللعلاقة مع غرب متقدم وهو غير مسلم. نعني بالواقع كل ما يكوّن حياة الناس في جميع المجالات، بكل مظاهرها وظواهرها وأعراضها وطوارئها. ويمكن تعريف فقه الواقع بأنه: «الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها». وهو مرهون إلى حد بعيد بالوقوف على اكتشاف قوانين الاجتماع والعمران، والإحاطة بالشروط والعوامل الفكرية المؤثرة فيها. من هنا نرى أن يشمل فقه الواقع: - إدراك التأثيرات البيئية الطبيعية، باعتبارها محددا أساسيا وموجها رئيسا لحياة الناس. - فقه الحركة الاجتماعية، على اختلاف أنواعها، باعتبارها الروابط التي تربط بين الناس. - سبر أغوار النفس البشرية، باعتبار الإنسان المحور والأساس في هذا الوجود. ولعل أول محطة في فقه الواقع إدراك التحولات الخطيرة التي حدثت في تاريخ المسلمين، وما آل إليه واقعهم بسببها. ومن العلم بالواقع فقه السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة، وغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة في دراسة الأوضاع العامة، أو تيسير سبل العيش وتحقيق مقاصد الشرع. كما يطلب فحص هذه العلوم الحديثة لمعرفة طريق الاستفادة منها في خطابنا الإسلامي. وخلاصة القول: شهد واقع المسلمين، ولا يزال، فجوة بين الشريعة والواقع، وذلك منذ قرون. وهذا الواقع يطلب من الدين أحكاما وفتاوى لينصلح بها، أو ليواكب بها الإنسان الحياة المعاصرة. وقد جاءت الشريعة كما هو معلوم لتخرجه من ظلمات الشرك والظلم إلى نور التوحيد والعدل. لكن الخطاب الإسلامي اليوم أبعد ما يكون عن تحقيق هذه الغايات، لذا كان من الضروري النظر في سبل تجديده والرقي به. من هنا ندعو إلى اعتبار تلك المداخل الأربعة علها تكون عونا في هذا التجديد وذاك الرقي. * جامعة عبد المالك السعدي - المغرب DrAHMEDBOUAOUD@