هل أنت (ما تملك) أم أنت (ما تحتاج)؟ إن الفجوة بين ما نملك وبين ما نحتاج هي فجوة نفسية اجتماعية وليست فجوة مالية في الغالب. فهل من السهولة تفكيك هذه الثنائية وتوحيدها في إرادة واحدة ووعي واحد وضمير واحد بين ما تملك وما تحتاج والعمل معك لا نيابة عنك؟ في الحقيقة رغم أهمية البعد النفسي والاجتماعي المؤثر في الإرادتين، إلا أن ما يهمنا هنا هو تأثير الثقافة الاستهلاكية التي تقف وراء (معادلة ماتملك وما تحتاج) ومدى مقاومتها للتغيير الذي تمر به كافة برامج ومشروعات المملكة التي تستهدف الفرد والأسرة ضمن برامج التحولات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المنبثقة عن رؤية المملكة 2030، فهل تنجح الثقافة الاستهلاكية بتأخير أو مقاومة التغيير المنشود، وما مدى توفر الحظوظ لخلق ثقافة تؤمن بأن الإنسان كائن منتج ومستهلك في آن معا، دون إلغاء أو تهميش لعنصر الإنتاج في الفرد أمام طغيان وهيمنة ثقافة الاستهلاك. بالنسبة لشاب مقبل على العمل، أيهما أولى وقف الهدر أم زيادة الدخل؟ وهل يستطيع أن يتخذ قراره بناء على وعيه وبحريته إذا كان من أوساط مؤثرة اجتماعيا، لا يكون للفرد مساحة من حرية القرار بوقف الهدر إذا كان يعيش في مجتمع تسيطر عليه ثقافة هدر الوقت والمال والجهد والطاقة؟ تشرفت منذ أيام بالمشاركة مع عدد من المهتمين والمهتمات من أبناء وبنات منطقة الجوف بورشة عمل دعت لها وعقدتها جامعة الجوف مشكورة تتلمس من خلالها خريطة طريق لخطة ثقافية لمنطقة الجوف ذات الإرث الحضاري الثقافي الاقتصادي العريق والزاخر بالمحطات المهمة في التاريخ والجغرافيا، وكيفية استثمار كل هذا التراث والثقافة في الحاضر والمستقبل وذلك في ضوء برامج التحول، المنبثقة عن رؤية المملكة 2030. افتتح الورشة مدير الجامعة دكتور إسماعيل البشري بكلمات عبقرية وحضر المناسبة عدد من المسؤولين المعنيين بموضوع الورشة والمؤسسات ذات العلاقة، فيما قاد الورشة ومجموعات النقاش الدكتور عصام الفيلالي بخبرته الراسخة وشخصيته الدمثة. كل فرص النجاح قوية أمام وضع خطة ثقافية لمنطقة الجوف وجميع المناطق، لكنني أعتقد أن التحدي أمام تلك الورشة وأمام وضع خطة ثقافية لمنطقة الجوف وكل المناطق هو تجذر واستشراء الثقافة الاستهلاكية المهيمنة والمسيطرة على الوعي واللاوعي، حيث لا شيء يمكن أن يعمل حتى الإنتاج والإبداع إلا تحت عباءة الثقافة الاستهلاكية. لا بد من عمل ما يحرر السلوك والوعي من ثقافة الاستهلاك بالتزامن مع وضع الخطط الثقافية. لا بد من إجراء دراسات معمقة حول هذه الظاهرة المتجذرة والوقوف على أسبابها واستشراف سبل الخلاص منها. تبادرت لذهني أسئلة ثقافية وأنا أتابع بعض مسلسلات تلفزيونية رمضانية خلال الليلتين الماضيتين، حيث فقر الموضوعات وفقر الكتابة وفقر التمثيل لأغلبها. الكل أصبح ممثلا كوميديا، نسخ مكررة ومقرفة، الأمر الذي يجعلني أستحضر ثقافة المناطق كمنتجات ثقافية وفنية تم تغييبها لعقود بسبب غياب خطط ثقافية وإعلامية تحافظ عليها وتنميها وتنعش المتعثر منها لتنافس بما يثري الساحة الثقافية الوطنية والعربية ويخلق فضاءات جديدة من فرص العمل والإبداع والاستثمار في هذا المجال. أمام المخطط الثقافي والمخطط الإعلامي فرصة كبيرة للعمل في ثقافات مناطق المملكة المختلفة وإقامة مهرجانات سنوية للكتابة والإنتاج الدرامي لهذه المناطق بالانفتاح على الهواة والمحترفين للعمل التلفزيوني والمؤسسات الإنتاجية الفنية. لا بد من إعداد وتأهيل كوادر الشباب للكتابة التلفزيونية على مستوى المناطق وعلى مستوى الوطن بشكل عام. فكم من منطقة غنية جدا بالثقافة والفنون، لكنها تفتقر لمن يعرف أبجدية الكتابة للصورة ومع الصورة. إن الكتابة للصورة وبالصورة ليست كتابة شعرية، فإذا كان الشعر سحرا فقد أبطلت الأرقام والنظريات العلمية سحره، وإذا كان الشعر ماءً وهواء فقد أصبح الماء غوراً والهواء تلوثاً ودخاناً، وإذا كان الشعر رومانسيةً فقد اخترق المستكشفون وعلماء الفضاء الصورة الخيالية للقمر وكل النجوم والكواكب والتي رسمها الشعراء ليصوروا القمر الحقيقي، فلم يعد للشعراء ما يهيمون به ويتغزلون. لا شيء يتغير حتى مع التخطيط، إذا بقيت ثقافة الاستهلاك مهيمنة ومسيطرة على الوعي واللاوعي. وإن أي تخطيط للثقافة أو لغير الثقافة، لن يتحقق أو ينجح، من دون اجتثاث ثقافة الاستهلاك أو تقليص تأثيرها. التي تقف حجر عثرة وراء متلازمة: (ما تملك) و(ما تحتاج)؟ وتحول دون جعلهما وعيا متسقا في إرادة واحدة وفي معادلة طبيعية منطقية واحدة. *كاتب سعودي [email protected]