رغم الغربة التي ساقته بعيداً كجسد عن مسقط رأسه لفترة ليست بقصيرة، إلاّ أن روحه تتجه صوب الكويت، في الوقت الذي لا يحمل فيه الجنسية الكويتية، إلا أنه الروائي الأول الذي تناول مواضيع كويتية شائكة في أعماله بما فيها قضية «البدون». ناصر الظفيري الكاتب الذي انتقل من حقول الهندسة لحقول الأدب بجرأة وحرفية، لم يخشَ الزمن، ولم يخن النداء حتى كتب العمل الروائي، الرواية التي يأمل من خلالها أن تفرز لنا قارئاً جديراً بتفكيك النص، صدر له أكثر من سبعة أعمال، في القصة: وليمة القمر، الأبيض المتوحش. وفي الرواية: أغرار، وضمن ثلاثية روائية أطلق عليها «ثلاثية الجهراء» الصهد وكاليسكا والمسطر، نسترسل معه في هذا الحوار: • تعيش في تقاطع بين ثقافتين، كيف يعرف نفسه ناصر الظفيري اليوم؟ •• تعلقت باللغة الأجنبية والقراءة فيها قبل أن أهاجر أو أنفي نفسي كتعبير أكثر دقة، وكنت أترجم مقطوعات شعرية وقصصاً قصيرة في الصحف الكويتية، كنت أرى القصص الأجنبية أكثر نضجاً، وأجمل تقنية من الأعمال العربية، وذلك للفجوة التاريخية بين كتابة الرواية في الغرب والعالم العربي، وحين انتقلت للعيش في كندا كانت أمامي فرصة كبيرة للالتحاق بجامعة كارلتون لدراسة الأدب الإنجليزي رغم سني المتقدم نسبيا، ولكنني أنهيت البكالوريوس والماجستير، في تلك الفترة أخلصت للرواية الإنجليزية والأمريكية بشكل خاص، وربما لثماني سنوات لم أفكر بالكتابة، ولم يكن لدي مشروع أدبي حتى عام 2008 حينها نشرت رواية أغرار، وهي رواية جئت بها من الكويت ولم أضف إليها سوى فصل واحد، مازلت كاتباً أحلم باللغة العربية وأعشقها رغم احترامي للغتي الثانية ومتعتي في القراءة بها. عالمي مازال هو العالم الذي عشته طفلا وشابا ورجلا ومازلت مخلصا له. • المعطيات الإنسانية في أعمالك توحي أنك كاتب للرواية الاجتماعية أكثر من أي شيء آخر هل تتفق مع هذا؟ •• ربما كلمة اجتماعي تشمل كل أشكال الأعمال الروائية، فالرواية السياسية هي بالتأكيد رواية اجتماعية؛ ولذلك أفضل إطلاق مصطلح سوسيو- سياسي على مجمل أعمالي. أرى نفسي جزءا من شعب يعاني الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية ومازالت هذه المشكلات عالقة حتى يومنا هذا، هذه المشكلات كان الإنسان هو ضحيتها الأولى في العالم العربي، لم تمنحنا المعاناة الإنسانية الفرصة الكبيرة للبحث عن العمل الروائي الفني البحت، لسنا شعوبا مرتاحة سياسيا ولا اجتماعيا ولا دينيا، لم نتخلص من مشكلتنا مع الآخر وتقبله شريكاً في الإنسانية، نحن لسنا نحبو حضاريا رغم العمق التاريخي لحضارتنا الإسلامية الرائعة الحضارة التي احتوت الجميع تحت خيمتها، ولكي نعيد هذه الأمة إلى وعيها علينا أن ننحاز للرواية التي تهتم بهذا الإنسان، لا نستطيع الخروج من مشكلتنا أو القفز عليها. • قضية «البدون» تناولتها بشكل مكثف، وتعد الروائي الأول الذي كرس نفسه لهذا الملف، لماذا البدون؟ •• هذه قضية شائكة جعلني القدر أحد ضحاياها، القضية بدأت مع استقلال الكويت الذي صادف بعد تاريخ ميلادي بسنة واحدة، اكتشفنا في شبابنا أو مراهقتنا أن الوطن تم تقسيمه إلى أناس يحملون الجنسية وينالون كل شيء وآخرين لا يحملونها ولا ينالون إلا الفتات الذي يمنح لهم فترة وينقطع عنهم فترة أخرى، لم تكن هناك فروقات اجتماعية بين الفئتين ننتمي لنفس الظروف ونحمل ذات الأسماء والألقاب ولم نفهم ما الذي يجري، لم تكن الأعداد قليلة كان العدد نصف المجتمع الكويتي تقريبا. بعد عام 1990 تمت معاقبة البدون بشكل قاسٍ رغم أنهم كانوا يحملون السلاح ويعمل أغلبهم في الجيش والشرطة، تم حرمانهم من التعليم والتوظيف والميلاد والزواج والموت أيضا. فلا تمنح السلطة لهم هذه الوثائق حتى يعترفوا بانتمائهم لبلدان لا يعرفون عنها شيئا، فهؤلاء هم الجيل الثالث والرابع الآن. • قال عنك الكاتب مبارك الهاجري روائي خسرته الكويت وفاز به الأدب والعالم! هل فعلا خسرتك الكويت؟ •• لم أخسر وطني، ولكنك ألقيت عن ظهري هذا الحمل الثقيل. مازلت روائيا كويتيا فكوني لا أحمل الجنسية لا يعني أني لست مواطنا كويتيا. ورفض الحكومة الكويتية حقي في التقاضي لدى محاكمها دليل إدانة لها وإثبات لهذا الحق. لا أنتمي أدبيا إلى أي بلد آخر غير الكويت، ورفضت الانتماء لأي بلد عربي حتى لا أفقد هذا الانتماء. الجواز الكندي هو انتماء ورقي بالنسبة لي، ربما الأمر ليس كذلك لأبنائي، ولكنني لن أقبل أن أخسر وطني حتى وإن خسرني. • تنحاز للعميق موازاة بحق نشر العمل ولو كان مستهلكاً! ألا يؤذي المثقف الجاد استسهال النشر؟ •• لا يوجد بلد في العالم لديه أدب رفيع فقط. نحن نترجم من العالم الأدب الرفيع وننتقي هذا الأطيب لتقديمه، وكذلك تفعل مؤسسات النشر ودور الترجمة في العالم، ولكن الواقع الأدبي أن هناك كمّاً هائلاً ومخيفاً من الروايات السطحية والتافهة في متناول قارئ عادي، مجاميع ضخمة في كندا لم تكمل تعليمها الثانوي أو المتوسط لا يمكن أن نطىالبها بقراءة كتب الأكاديميين ورواياتهم. وأتذكر تعليق رجل كندي على رواية الحب في زمن الكوليرا اشتريتها من سوق الكتب المستعلة كتب أحدهم عليها «هذه الرواية لطلبة في فصل جامعي وليست لي». المثقف الجاد غير معني غالبا بهذه الكتابات السخيفة والتافهة التي يستسهل الكاتب نشرها. هذه الكتابات لها جمهورها الذي يهتم بشكل الكاتب/ة وتفاصيل حياتها اليومية، وليس مهتما بما هو أدبي. لا أقبل الحظر أو الرقابة على أحد، ولكني أطلب العمل على زيادة الوعي لدى القارئ. • قلت سابقاً ما معناه أن الحلم قد يتحول لفخ، هل تشير للغربة؟ •• هناك مثل غربي يقول الأرض دائما خضراء على الجانب الآخر، وغالبا من يختار الغربة هو من يظن أن الحياة هي في مكان آخر كما عنون روايته ميلان كونديرا ولكن الواقع غالبا ما يكون العكس. ميزات الاغتراب -وهي كثيرة دون شك- لا تجعلك ترى الفخ الذي نصبته لذاتك وأنت تحقق حلمك. فجأة تجد نفسك منبتا عن جذورك، تصعب عليك العودة إلى ما كنت عليه، وتمتد الفجوة في روحك، وفي حال تمكنت من العودة ستجد أنك لست الإنسان ذاته الذي غادر المكان، ولا المكان هو ذلك المكان الذي تركت. أنت في الفخ فعلا وخروجك ليس سهلا كدخولك. • حدثنا عن عملك الأخير لهذا العام «الأبيض المتوحش» ؟ •• أبيض يتوحش ليس عملي الأخير، هو مجموعة قصصية طبعتها عام 1993، ورفضت استلامها من المطبعة لسوء غلافها عدا خمسين نسخة وزعتها على الأصدقاء. أضفت لها أربع قصص ونشرتها مع دار المتوسط في إيطاليا لعام 2017، ولقيت إقبالا جميلا في معرض الكويت الأخير. عملي الأخير هو الجزء الثالث من ثلاثية الجهراء بعنوانه المسطر تناولت خلالها ثلاث حالات من محاربي الجيش الكويتي من المواطنين البدون. وهو عمل منعته الرقابة التي منعت الجزء الثاني من قبل، ويحاول الإخوة القراء إدخال الرواية بشكل فردي وتوزيعها في الكويت. • من هو قارئ ناصر الظفيري؟ •• ليس لدينا قارئ نوعي إلا ما ندر. أغلب قراء الرواية يبحثون عن اسم فائز بجائزة أو شاب أو شابة شكلهما جميل أو وسيم، وهؤلاء لن يقرأوا أدبا جادا. القارئ الذي يهتم باللغة والشكل الروائي والمساهمة بكتابة نص موازٍ للنص الذي يقرؤه هو القارئ الذي أطمح إليه وأسعد به. ليس لدينا قارئ ناقد. أغلب أساتذة النقد مهمومون بالتدريس وبعيدون عن مدرسة الرواية الحديثة. الأمل كبير بأن انتشار الرواية سيخلق معها قارئا جديرا بتفكيك النص.