إذا كانت الثقافة العربية تعاني من أزمة كما يراها الكثيرون من المثقفين العرب حتى أصبحت أزمة الثقافة العربية سببا من أسباب الإخفاق الحضاري العربي، وحيث يرى البعض انه كلما لاح في الأفق مشروع نهضة حضارية عربية ومثلما يقول عبدالرحمن منيف في كتابه(بين الثقافة والسياسة ) فانه سرعان ماتعود تلك الثقافة إلى الانطلاق من منطقة الصفر. إلا انه من وجهة نظري الخاصة أرى أن الثقافة العربية لم تتجاوز نقطة الصفر منذ مئات السنين كونها لم تكن ثقافة خلاقة ومبدعة حتى تخلق نهضة حضارية عربية تميزها عن باقي حضارات الأمم. والسبب في ذلك أن الثقافة العربية لاترتكز على فكر قيمي يجعلها تنطلق في بناءها لمشروعها الحضاري من اتخاذها الإنسان كمحور للانطلاق النهضوي الذي يرتكز على أسس الحرية والعدالة والمساواة كتلك الشعوب الحرة التي لم تصبح ذات ثقافة حقيقية مؤثرة إلا بعد أن انتصرت على قيودها منطلقة من قيم إنسانية عظيمة أسست لدساتير هدفها تعزيز كرامة الإنسان تستمد من تلك القيم مبادئ للعيش الحر والبناء السليم والتطور الحقيقي. والدليل على انعدام القاعدة الأساسية للقيم الإنسانية العربية التي يستطيع أن ينطلق منها المثقف العربي للمشاركة في بناء مشروعه الحضاري أننا لم نسمع عن مناضل عربي منذ عقود طويلة سواء كزعيم سياسي أو مفكر تنويري يدعو إلى الحرية ويناضل من اجل تحرير الإنسان العربي مهما كانت التضحية مثلما فعل غاندي في الهند ومانديلا في جنوب إفريقيا أو مثلما عمل الرجال العظماء من أهل الفكر والسياسة في أوروبا وأمريكا من اجل تحرير شعوبهم من استبداد أو ظلامية أو تناحر والأخذ بهم إلى واقع الحرية التي أصبحوا بفضلها سادة الشعوب وقادة العالم. بل أن ما يحدث في الواقع العربي وفي عصرنا الحاضر لأمر مخزي حيث لايزال أكثر من يحملون مشعل الثقافة والفكر هم من يحزن على سقوط الطغاة وينادون إلى إعادة استنساخهم من جديد بالرغم مما يدركونه من خطر تلك الأصنام المستبدة التي لاتجيد صناعة الإنسان المبدع بقدر ما تلجأ إلى قهره ومسخه وإبادته. لذلك فان مانراه من تسيد للثقافة الغربية سواء الأمريكية أو الأوربية ليس إلا نتيجة لما أفرزته القيم الغربية بعد انتصاراتها المتلاحقة ضد الاستبداد والقمع وضد مدعي امتلاك الحقيقة ونهجها الطريق الديمقراطي المنظم لحياة الناس تحت قوانين وأنظمة عادلة في ظل نعمة الحرية التي لاتخضع لقيود أو موانع تقصي الإنسان عن ممارسة حقه كي يعبر عن ذاته بطريقة مستقلة، دون أن يكون لغيره الحق أن يسلبه ذلك الحق المقدس. إن مشكلة الثقافة العربية الرئيسة تكمن في ارتباط تلك الثقافة بالادلجة الدينية والسياسية، مما يجعلها دائما في خدمة تلك الايديلوجيا،بحيث يلجأ رجل السلطة الايديلوجية إلى استخدام تلك الثقافة عبر المنتمين إليها بما يحقق غاياته السلطوية وحينما تخضع الثقافة لسلطة الايديلوجيا فإنها تفسد وتنحرف عن مسارها الأخلاقي والقيمي الذي يجب أن لايهادن سلطة مستبدة ولا يتنازل عن حق الإنسان في العيش بحرية. الثقافة الحقيقية المبدعة : تنطلق في رؤيتها للحياة من مبادئ راسخة وقيم عظيمة تحترم حرية الإنسان وكرامته، بينما الايديلوجيا تنطلق من رؤية باطنها سياسي وظاهرها مغلف بالثقافة المزورة أو الدين المسيس والمزيف، وكلما تسيس الدين أو الثقافة كلما تحولت القيم إلى قيود يستخدمها الجلادون لتكبيل حرية الإنسان مما يجعلها منافية لمبادئ الفكر القيمي المنتج للثقافة الايجابية الخلاقة. وارتباط الثقافة العربية بالادلجة السياسية والدينية هو ما يجعلها خلال العقود الطويلة ثقافة غير خلاقة بقطع النظر عن الحالات الاستثنائية المبدعة على قاعدة الإخفاق الحضاري العربي بسبب ما تعانيه الثقافة العربية من فشل كبير في صنع إنسان حضاري يخلق إبداعا إنسانيا حقيقيا. لذلك فان ذلك الارتباط بين الثقافة من جهة والسياسة والدين من جهة أخرى أعطى للايديلوجي فرصة أن يستخدم الرجل المثقف لتمرير مشاريعه السلطوية وليست النهضوية، لنجد المثقف يخضع الثقافة لرأي السياسي عندما يكون أمام قضية عربية هامة أو حدث طارئ بقصد إرضاء السلطوي أو اتقاء شره، ليتحول المثقف إلى عنصر ضار بجانب السلطوي ضد مصلحة الشعب أو الأمة، بعكس المثقف الغربي المستند في ثقافته على فكر حر وقيم إنسانية تشبع منذ نعومة اظفاره بمبادئها العظيمة التي تقف إلى جانب حقوق الإنسان أيا كان جنسه أو عرقه أو دينه ضد استبداد السلطة. لذلك نجد أن المثقف الغربي يخضع السياسي للثقافي عندما تكون هناك أزمة كيلا ينحرف السياسي برأيه الذي لاينطلق من مبادئ أخلاقية في المقام الأول بقدر ما ينطلق من مبدأ المصلحة السياسية، لذلك فانه بالرغم من أهمية المصلحة القومية عند السياسي الغربي إلا أن دور المثقف غير المرتبط بالايديلوجيا السياسية والدينية يجعله كضابط إيقاع لسلطة السياسة كيلا يصل ذلك السياسي إلى ابعد مدى في التجرؤ على القيم الإنسانية التي تعتبر في فكر المثقف الغربي مقدسات لايجب السكوت عمن يصبح خطرا يهدد تلك القيم حتى لو كان رئيس الدولة ذاته. انفصال الثقافة الغربية عن الادلجة يجعل المثقف في مأمن عن السقوط تحت مظلة السلطوي، بينما ارتباط الثقافة العربية بالادلجة يجعل المثقف أداة طيعة لرجل السلطة، وقد يرى البعض أن المثقف يجب أن ينأى بنفسه عن الهم السياسي كيلا يكون أداة لرجل السلطة بينما الصحيح أن تنفصل الثقافة عن السياسة والدين كي لايتم ادلجتها ولكي لايتم استغلالها الاستغلال السيئ من قبل رجل السلطة، ولكنه من حق رجل الثقافة المستقل برأيه أن يكون مشاركا في كل هم سياسي حتى لايتجاوز السلطوي حدوده في الإساءة للقيم الإنسانية العظيمة مهما كانت حجة السياسي بالحفاظ على المصلحة القومية العامة. ولكي يكون للعرب ثقافة مبدعة وخلاقة تدفعهم لبناء حضارة حقيقية، يجب أن يؤمنوا في قيم الإنسانية التي آمنت بها كل الشعوب الحرة التي تحررت من ربق العبودية والاستبداد، لأن الثقافة الخلاقة لاتنمو إلا في بيئة خصبة بالتنوع والتسامح وتلك البيئة لا تتشكل إلا في جو من الحرية. وعندما يكون الإنسان حرا بلا قيد يمنعه من الحركة وبلا شرط يردعه من حرية التفكير والاختيار،فانه يرتقي بعقله إلى مستوى الإنسان الحقيقي القادر على صناعة التفوق وبناء الحضارة. إخفاق العرب الحضاري : هو إخفاق قيمي سببه غياب الحرية، ذلك المقدس الذي لم ينل العرب شرف الانتماء إليه! وقبل أن يكونوا أحرارا لن تكون لهم حضارة وستستمر إخفاقاتهم وأزماتهم وهزائمهم ولن تتجاوز خطواتهم الحضارية نقطة الصفر وسيظلون تابعين للآخر وقابعين تحت هيمنته سواء أراد بهم خيرا أم شرا. لكن اللوم ليس على ذلك الآخر الذي من حقه أن يعتز بحضارته وثقافته ويحافظ على مصالحه وإنما اللوم على العقل العربي الذي لم يستطع التحرر من خرافته وقيوده وجهله البدائي المؤسس... ودائما يتأوه مع أم كلثوم مرددا : سالم اليامي صحيفة ايلاف