«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دور المثقف الحلقة (1–2)
نشر في المدينة يوم 30 - 07 - 2010

ذكر عمرو موسى في مقولة تنسب له بأن المثقفين اليوم هم قياديو هذه الأمة فقال:"المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها، لقد بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها" ومن خلال هذه المقولة التي استثارت الفكر حول دور المثقف المعاصر اليوم استضافت "الرسالة" نخبة من المثقفين للحديث حول دور المثقف العربي في ظل هذه النكبات والقضايا الشائكة التي تعاني منها الأمة وتقاطعات المصالح الذاتية والاجتماعية فضلا عن الداخلية والخارجية:
المثقف (إنسانُ) المجتمعُ
د.عادل با ناعمة
(دور المثقف)! هذه العبارة في رأيي مضللةٌ نوعاً ما، لأنّها تجعلُ (الدور الإصلاحيَّ) شيئاً خارجاً عن ذاتِ المثقف وكينونتِهِ، والذي بتُّ أومنُ به أن من لا يؤدِّي (دوراً إصلاحياً) لا يستحقُّ أصلاً أن ينال صفة (مثقف)!
الجدير بحمل شرف (المثقف) في نظري هو من جمعَ بين ثلاثةِ أركان: رصيد معرفيّ، وقدرة عقليةٌ على فهم وتوظيف هذا الرصيد، واستثمارٌ للأمرين في القيام بدورٍ إيجابيٍّ تُجاه المجتمع. وبالتالي فإنَّ ما يقوم به المثقَّفُ من جُهدٍ إيجابيٍّ هو جزءٌ من كينونتِهِ، وليسَ صفةً عارضةً من صفاتِهِ. ويضيقُ المقامُ عن سردِ مبرراتِ هذه الرؤيةِ، تماماً كما يضيق عن استيفاء كل ما يجبُ عن المثقف.
ربما يكون هذا اصطلاحاً خاصاً، وقد يكون تطرفاً! ليكن .. بالنهاية هي وجهةُ نظرٍ لا تزيدني الأيام إلا ميلاً لصوابها.
وفي ظنّي أنَّ جِماعَ واجب المثقفِ هو أن يكون (إنسانَ المجتمع)، وفي هذا الإطار يمكنُ الحديثُ عن خمسةِ أدوارٍ كبرى:
1 دور القلب: القلبُ يضخُّ الحياةَ في جسد الإنسان، وكذلك المثقف يجب عليه أن يضخَّ الأمل والتفاؤل، أن يُبقي شعلة الحياةِ متقدةً في مجتمعِهِ رغم كل ما يحيطُ به، وكما يضبط القلبُ إيقاعَ الدورة الدموية ليُنقّى الدمُ، ويصلَ لكل عضو ما يحتاجُهُ من هواء وغذاءٍ كذلك ينبغي على المثقف أن يكونَ ضابطَ إيقاعِ الحركة الفكرية بحيث يمارس دور التنقية و(الفلترة)، ودور إيصال النافعِ إلى كل قلبٍ وعقلٍ، فهو مهمومٌ أبداً بنشر الثقافة النافعة والمعرفة الرافعة.
2 دور العقل : ليس المقصودُ أن يفكِّر المثقف بالنيابة عن المجتمع، ولا أن يتولى وصايةً عقليةً وفكرية عليه، ولكن المقصودَ أن يكونَ المثقف بمثابةِ العقلِ الذي يصقُلُ عقول الناسِ، يقدمُ لهم نماذجَ من التفكير الصحيح، والتحليل السليم، والوعي المستنير، مما يرفع درجة وعي المجتمع وإدراكه، ويجعله أكثر قدرة على التعامل الفاعل مع واقعِهِ وظروفِهِ ومشكلاتِهِ.
3 دور اللسان : فالمثقفُ لسانٌ ناطقٌ عن الضمير الشعبيّ، والعقلِ الجمعيِّ، إنّه ذلك الإنسان الذي تجمعتُ فيه قدرةُ العشراتِ أو الآلاف عن البيان، فهو بذلك ينوب عنهم، يشرح قضيتهم، يرفع الصوت بأفكارهم وآمالهم وآلامهم مهما لقيَ في سبيل ذلك من صعوباتٍ.
4 دور العين : فالمثقفُ عينٌ ناقدةٌ، لا باتجاهِ السلطةِ فحسب كما قد يظن البعض، بل باتجاه الشعبِ أيضاً، إنّه ذلك الشخص الذي يجعلُ من همِّهِ وضعَ اليد على شروخاتِ المجتمعِ، كما يهتم بوضع اليد على شروخاتِ الحكومة، هو عين تنظرُ باتجاهين بحثاً عن العيبِ لا للتشهير به ولا لتسجيل المواقف البطولية الوهمية، ولكن للدلالةِ على سبل تجاوزِهِ، واقتراح خطواتِ العلاج.
5 دور الأذن : من واجبات المثقف أن يكون مستمعاً جيداً وهذا يقتضي أن يكون موصولا بالمجتمع غير معزول في برجٍ عاجيٍّ، وبقدر ما (يصغي) المثقف لهموم مجمتعِهِ، بقدر ما يستمع للناس البسطاء، لأحاديث المهمومين على الأرصفة، وشكاية العاطلين في المقاهي. بقدر ما يستمع شكوى هؤلاء وهمومهم بقدر ما يكون أقدر على ممارسة واجبه الإصلاحيّ. وبالنظر إلى هذه الخماسيةِ يمكننا أن نفهم معنى كون المثقف (إنسانَ المجتمع). وفي ظني أن هذه الأطر العامة من الشمولية بحيثُ تكادُ تستوفي – عند التفريع والتفصيل – عامة ما يمكنُ أن يُقالَ في دور المثقفِ وواجبِهِ الإصلاحيّ .

فضائح المثقف
د.خالد السيف
مصطلح المثقف ليس مصطلحاً بسيطاً بل هو مصطلح متشابك ومتداخل مع مفاهيم متعددة مترابطة حيناً ومتعارضة حيناً آخر وهذا سبب مواقف المثقف المتضادة، فالمثقف ليس هو المفكر النخبوي وليس هو الداعية ولا السياسي ولا المدافع عن الحريات أو المشتبك بأغلب الصراعات بل المثقف جزء من هذا كله ولذلك يحسن التعامل مع المثقف كظاهرة اجتماعية وليس كفرد أو تيار، وعلى هذا فمهمة المثقف تأتي بالدرجة الأولى بصناعة الأفكار المجردة عن أي نفسٍ أيديولوجي وتنتهي مهمته عندما يجف حبره على الورق وتكون أفكاره هي التي تدافع عن نفسها بدلاً من أن يسخّر لها وسائل أخرى مساندة للدفاع عنها، إن المثقف عندما يمارس دوره الحيادي في إنتاج الأفكار التغييرية فهو بهذا يضع الاختيار أمام المجتمع بقبول أفكاره من عدمها وهو بهذه الحيادية يربي المجتمع على حرية التعبير وحرية الاختيار بدون أي ضغط قد يؤثر في تناول الفكرة أو حتى تطبيقها على أرض الواقع، وهذا هو دور المثقف المنشود، ولكن يبقى السؤال مهماً هل هذا هو الواقع على نطاق المثقفين.
إن مشكلة المثقف تكمن في نخبويته ونرجسيته وبأحلامه التنويرية فهو يدعي أنه يعرف كل الحقيقية وأنه الأفضل ومستعد أن يحشر أنفه في كل قضية وإن كان لا يحسنها مقارنة بغيره الذي لا يستطيع التعامل مع القضايا كما هو يتعامل معها بكل اقتدار كما يتوهم، وكأنه يفكر نيابة عن المجتمع ويمارس وصاية على الآخرين ويقرر مصلحة الناس نيابة عنهم، وفي حقل الصراع فإن المثقف يدّعي الحياد وينادي بالحرية والدفاع عن الحقوق ويمارس النقد بناء على ضرورة التغيير، والملاحظ أن أكثر المثقفين دعوة للحرية هم أكثر الناس ممارسة للاستبداد الثقافي، وأكثر المثقفين دعوة للتنوير والعقلانية هم أكثر المثقفين دعوة إلى تقديس أفكارهم ورؤاهم بصفتها أفكار الخلاص، وأن لها مفعولا سحريا للنهوض في سبيل الحضارة والتقدم، وهذا ما يفسر أن كثيراً من المشاريع الثقافية آلت إلى أنظمة استبدادية، وفي الحقيقة أن المثقف يمارس سلطة رهيبة في كتم الحريات وخصوصاً في أوقات الصراع مع الآخر ويحجب الحقيقة عن المجتمع الذي يحاول تنويره وينتقد غير بتجريح واستهتار، وعندما يُنتقد يُصنف ذلك بالجهل والتخوين وأن ذلك ضد الثقافة أو الوطن. وعندما يتحدث المثقف عن الأمة أو الوطن فإنه ينطلق من مهمة رسولية وأن أفكاره أخذت مصداقية قدسية وأنه صاحب مشروع ورسالة وتصل هذه التنافسية في هذا الحقل إلى درجة مقيتة حين يستخدم المثقف لغة الاستدعاء والتخوين وإثارة العصبيات المقيتة وتضليل الرأي العام. فالمثقف ليس حيادياً كما نتوهم بل هو يسعى إلى رضا الجماهير وكسب مواقع النفوذ والتقاط الأضواء، والسباحة ضد التيار والعبث بالثوابت ليقال عنه أنه ناقد، ومع أنه داعية للتغيير إلا أنه يرفض التغيير الذي يفقده شيئاً من امتيازاته.
إن الحقيقة تقول أنه لا يمكن للمثقف إنتاج فكر نيّر إلا في الهواء الطلق، وأما الأجواء المكهربة والمحمومة فإن المثقف يفشل في أداء دوره الثقافي وهذا عام في غالب المجتمعات، ولذلك فالمثقف الذي يكتب في أجواء هادئة إنتاجه الفكري أعمق من المتورط في الصراعات الفكرية التي تكون على حساب الحقيقة أحياناً، لأن الصراعات تمثل سلطة خفية تقف خلف المثقف لتملي عليه سلوكه الخاص. ولكن هل يمكن أن نقول إن هذا تشخيص لحالة تقهقر الإعلام والصحافة التي هي محضن الثقافة عن الإنتاج الثقافي مقارنة بإنتاج الصراع حول الثقافة والخصام على الأفكار بعيداً عن إنتاج الأفكار نفسها ؟ يمكن أن يكون هذا تشخيصاً وجيها وخصوصاً عندما نطالع الزوايا الثقافية أو نشاهد البرامج الثقافية لنرى المثقف انقلب إلى صورة محارب شرس يحاول الفتك بخصومه بأي طريقة حتى لو كان ذلك بأسلحة محرمة أو غير مشروعة أدبياً.
إنه لا ثقافة بدون حرية ولا يمكن الحديث عن جو ثقافي منتج مع استبداد المثقف واسئثاره بالحرية دون المثقف الآخر، ولذلك أصبحت مشكلة المثقف ليس سلطة المجتمع أو سلطة السياسي بقدر ما تكون مشكلة المثقف سلطة ذاته وخداعه واستبداده ووحشيته مع خصومه، ولذلك فيمكن القول إن المثقف تخلى عن دوره الريادي في صناعة الفكر وإنتاجه إلى كونه داعية فكر يمارس الأدلجة وتصفية الحسابات والتخوين والاستعداء على الآخر بتهمة خيانة الوطن أو الأمة، وقد يكون المثقف من هذه الزاوية أشد شراسة من السياسي الذي يقبل بالمصالح المشتركة ويفتح المجال لتقاسم السلطة والحلول المؤقتة مقارنة بحسم المثقف للقضايا المتنازع عليها بكل قسوة واستبداد، وهذا ما يقلل الثقة به عند الجماهير ويفقده لدوره الريادي بتحوله من صانع للفكر إلى داعية للفكر.

إشكالية المثاقفة!
عبد الله المالكي
المثاقفة من المفاهيم التي تعبر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذ والعطاء) بين الحضارات البشرية المتعددة. وهو اتجاه يسعى أن يكون وسطا بين الانفتاح المطلق الذي يؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاق المطلق الذي يؤول إلى الانعزال تماماً عن الآخر والعالم بأسره. وبهذا المعنى تعد المثاقفة رافداً مهما تسعى كل أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهوية وثوابتها. وفي نفس الوقت تتمكن من تقديم نتاجها الثقافي للآخرين دون تحرج أو مصادرة وبشكل حضاري وسلمي. وأقول (سلمي) لأن الأمم قبل العصور الحديثة، كانت تنشر ثقافاتها بين الأمم الأخرى من خلال الحرب والاستعمار والضغط العسكري .
كما أن مفهوم المثاقفة يصلح أن يكون بديلاً عن مفهوم الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الهوية وإلحاقه بالآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية احتقارية متغطرسة.
هكذا تقدم المثاقفة في الفكر العربي المعاصر؛ حالةٌ من الاعتدال بين الذوبان والتصلب في التعاطي مع ثقافة الآخر.
لكن إذا عدنا إلى مفهوم المثافقة في الفكر الغربي (Acculturation) فإننا سنجده مختلفاً تماماً عما يطرح في محيطنا الثقافي، حيث تطرح المثاقفة على أنها "علاقة بين ثقافة متفوقة وثقافة متخلفة" (انظر الأنثربولوجيا والاستعمار لجيرار لكلرك ترجمة جورج كتورة)، بمعنى آخر كما يقول حسن حنفي "أن المثاقفة التي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي والتبادل الثقافي؛ هي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب بالجديدة والأنماط الأخرى للتقدم".
هذا من جهة المفهوم وأما من جهة الواقع والممارسة، فأغلب النتاج الثقافي في محيطنا العربي بكل أشكاله وأنواعه؛ لا يخرج عن سياق المفهوم الغربي للمثاقفة. فكثير من مثقفينا (والمستغربين منهم على وجه الخصوص) قد وصل بهم المطاف من خلال هذه المثاقفة إلى حالةٍ لم يعد الواحد منهم قادراً على الإبداع قولاً أو فعلاً إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجية في الحضارة الغربية: ماركسية كانت أو وجودية أو وضعية أو بنيوية أو تفكيكية أو أي شيء آخر، المهم أن يكون النموذج الغربي هو المنطلق. وبعبارة أخرى: أصبح الغرب من خلال هذه المثاقفة هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي عربي.
وكما يعترف حسن حنفي (وأنا استشهد به هنا لكونه يعد من أكبر من مارس المثاقفة مع الفكر الغربي) يقول: "منذ أكثر من قرنين من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفاً صريحاً واضحاً. مازال موقفنا موقف الناقل، عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد.
وما زال أكبر مشروع لدينا إلى وقت قريب هو النقل، والذي سميناه ترجمة الأعمال الكاملة لكبار المفكرين في الغرب، ويظل أكبر مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة (الألف كتاب) نقلاً عن المؤلفات الغربية ... وكأننا محكوم علينا بالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلم والصبي أمام الأستاذ والمعلم الكبير ... لقد أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب، وأصبح حامل العلم والفكر لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر عدد ممكن من الأسماء والأعلام والمذاهب الفكرية من الغرب منتسباً إلى أحدها، داخلاً في معاركها، داخلاً فيما لا شأن له به، حاشراً نفسه في معارك لم ينشئها ولم يكن طرفاً فيها ... وتنتشر المصطلحات بين الباحثين الشباب فيشعرون بضالتهم أمامها: الهرمنيوطيقا،الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، التفكيكية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندتالية، وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابتسميه، الدياكرونية، السنكرونية .. إلخ » و أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم هذه المصطلحات».
هذا اعتراف أحد كبار الممارسين للمثاقفة مع الفكر الغربي، ومثل هذا نجده من قبل عند زكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم مما لا يتسع المقام للوقوف على نصوصهم.
أريد هنا أن أشير إلي أن الفكرة الأساسية التي تقف وراء هذه الإشكالية المسماة ب (المثاقفة)، هي كالتالي: الاعتقاد المطلق بأن الثقافة الغربية، نتاج إنساني عالمي، يتجاوز الزمان والمكان، ويعبر حدود الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي لا يختص بحضارة دون حضارة. وفي جملة واحدة (نزع الخصوصية عن الثقافة الغربية). هذا الاعتقاد هو أكبر وهم ما زال يعشش في أذهان كثير من مثقفينا العرب. فالفكر الغربي في حقيقته لا يعدو أن يكون بيئياً محضاً - كأي فكري بشري - نشأ في ظروف معينة هي تاريخ الغرب نفسه، وبالتالي فهو صدى لتلك الظروف. والمفكِّرون الغربيون - كما يقول حسن حنفي في اعترافه السابق: «يعبّرون عن ذلك بأنفسهم بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا،فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا، بل حتى ديننا! وإلهنا! فعند الكتَّاب الأوربيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها، وبأنهم ينتمون إلى حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى. لذلك كان خطؤنا، نحن الكتَّاب العرب غير الأوربيين، الذين ترجموا مؤلفاتهم و شرحوها، وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها = اعتبار الحضارة الأوربية حضارة عامة للناس جميعاً، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبةً في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين».
وهذا لا يعني رفض المثاقفة بالكلية. أبدا. بل إن المثاقفة تبقى رفدا مهما في عملية التطوير والنماء من خلال اكتشاف العناصر الإيجابية لدى الثقافات البشرية الأخرى دون الإضرار بالهوية والقيم العليا. لكن الذي حصل وجرى ممارسته من خلال الفكر العربي المعاصر، لم يكن مثاقفة بهذا المعنى. وإنما كان حالة لا تعدو أن تكون صورة جديدة (ومهذبة!) من صور التبعية الثقافية للنموذج الغربي. وهي امتداد لما ابتلينا به منذ فجر النهضة العربية على أيدي الليبراليين والحداثيين العرب، والذين تحولت معهم النهضة من حلٍّ للأزمة إلى أزمة في ذاتها. و إلى اليوم ونحن نعيش هذه الأزمة (أزمة التراث والمعاصرة).

المثقف ومهمات مجتمعية
إبراهيم النعمي
قبل أن نعرف ما يمكن أن يقدمه المثقف للمجتمع عبر تفاعله معه؛ يجب أن نحرر مفهوم "الثقافة" من هذا التعريف الملتبس الذي يجعل الثقافة والمثقف سمة لفئة معينة من المهتمين بالشأن المعرفي في حركته الأبستمولوجية وحسب. إن الثقافة في الحقيقة ليست إلا الوعي الذي يكتنف كل إنسان من خلال منظومة لا متناهية من الحياة والفكر والوجود والمعارف وطبيعة الأشياء، وبالتالي لكل واحد من بني الإنسان دوره الذي يمارسه في المجتمع من خلال ثقافته بالمعنى الأخير.
لا أزعم أنني سوف أجد لفظا بديلا لما اشتهر على الألسنة فيما يتعلق بمسمى المثقف، ولن يحبسنا شح الاصطلاحات عن الحديث عن الفكرة التي هي محل اهتمامنا، وعليه ربما نعبر على الأقل في حديثنا هنا عن المثقف؛ بالقارئ الواعي ، أو المتابع الجاد للحراك المجتمعي في بعده المعرفي أعني بالقارئ والمتابع ذلك الشخص المنتج على مستوى التنمية الذاتية أولا؛ ثم على مستوى فهم الآخر في جانبه الشمولي المتعلق بتعاطيه مع ما حوله من الأفكار والعلاقات. وبالتالي فدور هذا المثقف يقف على دعامتين هامتين إحداهما ذاتية والأخرى اجتماعية، وبعبارة أخرى إن المثقف لا يستحق أن يكون ذلك الشخص الذي يمكن أن يقدم شيئا لغيره؛ إلا بعد أن يكون هو في ذاته قد حقق القدر الواجب من صناعة الذات وصياغة الأفكار وممارسة النقد، حينها يمكن أن يشارك في تشكيل الوعي المجتمعي عن طريق تعاطيه وتفاعله مع ما حوله من القضايا، وحتى لا يكون حديثنا هنا مجردا من الحقائق، أو يكون مجرد تنظير لا يحمل في حقيقته معرفة صادقة أو فكرة مهمة، فإنه من المناسب أن نضرب مثالا من الأمثلة التي تستدعي تدخل المثقف ومشاركته وبالتالي عطاءه وإنتاجه.
من القضايا التي أرهقت المجتمع العربي الإسلامي على الأقل في الفترة الأخيرة قضية التبعية في الانتماء لأحد التيارات المتاحة في الساحة والتماهي مع ما تقدمه من أطروحات في جوانب الدين والحياة، وليس خافيا مدى التوتر الذي يمكن أن تحدثه فتوى شرعية في مسألة فقهية خلافية فرعية تطاحن فيها علماء سابقون من قبل، وطرحت من ثم نقلا عن الغير لتصبح مثل هذه الفتوى قضية القضايا التي بسببها حدثت انشطارات داخل أصحاب الاتجاه الواحد، حتى حصلت بسببها المفارقة والموالاة والمعاداة وترتب عليها الإقصاء والبراءة والتشكيك في القيم والعقائد والذمم، إننا إزاء أزمة حقيقية في التلقي والفهم ، فمن ندعي أنهم النخبة المثقفة في المجتمعات هم أكثر الناس حاجة للمساعدة على إيجاد منهجية صحيحة تأخذ بأيديهم للتعامل الصحيح مع هذه القضايا التي تكرس الفرقة لا الاختلاف. ربما نحتاج لشيء من التخلي عن إحلال بعض الرموز في مكان عقولنا وموضوعية أفكارنا، وربما أحيانا نحتاج لنسف كل ما يقف أمام تطلعنا لفكر أكثر وعيا وأفضل منطقا. والسؤال الملح الآن هو ما دور المثقف في كل هذا؟ دور المثقف لا يقف عند تحديد مهمة إسمية مرسومة المعالم ولكنه دور تفاعلي ينتجه الحراك الفكري الخاص به هو بالدرجة الأولى، أي حراك أفكاره التي تتعارك فيما بينها في داخله لتنشئ بيانا متصالحا مع نفسه مقتنعا بمنهجيته وأسسه المعرفية .
إن أهم مهمات المثقف هو التحرر من الغير أيا كان، التحرر من الإلف الثقافي ومن المرجعيات الإيديولوجية ومن الأسماء المقدسة في شتى اتجاهاتها الدينية أو الليبرالية. "فيما يتعلق بما يمكن أن يكون محلا للخلاف والنقاش" دور المثقف أن يتحرر من السلطة في كل حالاتها، وحين يصبح المثقف حرا حتما سيجد أحرارا آخرين يسمعون له ويتأثرون به. إنها الفردية التي من خلالها يتكون المجتمع الواعي وبغيرها لا يكون.
حين نتحدث عن المثقف في مجتمعنا يجب أن نعرف أننا نتحدث عن مجتمع خال من المؤسسات المدنية التي تمنح المثقف منصة لتبليغ أفكاره من خلال منظومة متجانسة تعرف ما تريد، من أجل هذا كان لا بد من الالتفاف على السلطة (في كل أشكالها) لنساهم في وضع قدم جديد على طريق التغيير. لذلك لابد للذات الثقافية من أن تدرك نفسها ولا يمكن أن تدرك نفسها إلا في مواجهة الآخر وبالحوار معه. ولكنه الحوار الواعي القائم على مساحات مشتركة من التفاهم، والقصد، والمسؤلية. حينها يمكن أن نحدث تغييرا أشبه برجع الصدى بمعنى أنه تغيير لا ينهج المباشرة ولكنه يجيد الالتفاف الواعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.