لو أن بيدي أن أوجه كلمة إرشادية تلهم لجنة المائة المنوط بها وضع الدستور الجديد لمصر ما بعد الثورة، لقلت لهم جملتان فقط لا غير: مشكلة مصر المزمنة حكامها.. وحل المشكلة يكمن في إخراج مصر من جعبة الحاكم.. هذا التشخيص لأزمة مصر ومشكلتها ليس من عندياتي، ولكنه تشخيص العبقري جمال حمدان في رائعته الكبرى " شخصية مصر"، وهو في حدود عشر كلمات شخَّص المشكلة، وأعطانا الحل السحري لها. هذا الحل يمكن صياغته بعبارات أخرى، ويمكن وضعه نصوصاً دستورية تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، وتضع مصر في موقع سيدة الحاكم لا خادمته المطيعة. إخراج مصر من جعبة الحاكم يبدأ بأن يعود الحاكم إلى صوف البشر، لا أن يبقى في مصاف الآلهة، أن يكون واحداً منا نختاره على أعيننا بالانتخاب الحر المباشر، وليس هبة من السماء أرسلتها العناية الإلهية لمهمة إنقاذنا. إخراج مصر من جعبة الحاكم، يبدأ من التوافق على أن يتولى أمرها من لا يغير ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ، من لا يأخذها من موقع هي مؤهلة له، ودور هي مرشحة للقيام به، إلى موضع مهين لها ولتاريخها وحجمها وقيمتها. أن يتم التوافق المجتمعي على إقرار مبدأ تداول السلطة، والاتفاق على أسلوب وأدوات وطريقة انتقال السلطة سلمياً، واحترام الحقوق المدنية والسياسية للجميع، وتحكيم صندوق الانتخابات، وأن توضع الحدود الفاصلة بين السلطات جميعاً، بحيث لا تجور سلطة فوق أخرى، أن تتكامل سلطات الدولة كلها، وأن تقوم كل منها بمهمتها دون الافتئات على مهمات وصلاحيات سلطة أخرى. إخراج مصر من جعبة الحاكم هي مهمة أهل الدستور من فقهاء وقانونيين ومثقفين يعكفون على وضع دستور جديد لا يجعل من الحاكم رباً للعباد والبلاد، الآمر الناهي، صاحب الحل والعقد، المتصرف في شئون البلاد كما يحلو له بلا رقيب ولا حسيب، ويجعل منه حاكماً يدير شئون البلاد عبر مؤسسات حاكمة، ومجتمع واع، ومشاركة شعبية لا تحدها حدود غير حدود الدستور والقانون. إخراج مصر من جعبة الحاكم يتطلب أول ما يتطلب أن تتحول الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية من مجرد واجهات أو ديكور لزوم الضحك على الذقون، يؤدي فيها الجميع أدوار الكومبارس ليبقى الحاكم هو البطل الفرد الذي يملي إرادته فلا راد لها، ويقرر فلا معقب على ما يصدر من قرارات، باعتبارها كلها قرارات تاريخية لا يجوز مجرد التعليق عليها. وأول شروط نجاح مهمة إخراج مصر من جعبة الحاكم تبدأ من أن يضمن الدستور الجديد وجود رئيس سابق، أدى مهمته بنزاهة وتفانٍ وخرج من السلطة، ولم يفكر يوماً في أنه مؤبد فيها، مخلد فوق كراسيها. إخراج مصر من جعبة الحاكم يعني أول ما يعني أن يتولى أمرها رئيس له ثروة معروفة المصادر، ومقيمة ومثبتة في إقرار الذمة المالية لحظة ينتخبه الشعب وقبل أن يخطو خطوته الأولى إلى الباب الخارجي للقصر الرئاسي، وأن يضمن الدستور الجديد مراجعتها لحظة خروجه من السلطة، فإذا زادت فالزيادة لنا، وإن نقصت فالنقصان عليه. مصر تتطلع إلى رئيس لا تتضخم ثروته فتصبح هي ثروة البلاد، تريد رئيساً يعمل عند الشعب، يدفع له الشعب راتبه من قروشه القليلة، لا أن يكون الشعب عبيد إحساناته، مصر تريد حاكما خادماً للشعب لا سيداً عليه. مصر تريد رئيساً يسهر على رعاية مصالحها، ومصالح المواطنين جميعاً بلا تفريق ولا تمييز، تريد حاكماً يوفر المناخ الملائم لنمو الأعمال، لا حاكماً يكون شريكاً لكل رجال الأعمال. مصر تريد رئيساً يضرب بيد من حديد على الخارجين على القانون، لا أن يكون هو وتابعوه أول العابثين بالقانون. فخامة الرئيس الذي تريده مصر الجديدة وظيفته حماية مصالح الناس، لا أن يكون هو والذين معه أول المضاربين على مصالح الناس. الرئيس الذي نريده هو رأس الدولة، لا أن يكون هو الدولة. الرئيس الذي نريده هو الرئيس الذي يسهر على تحقيق الأمن والاستقرار وحماية المواطن والحفاظ على كرامته، وحرياته وحقوقه، لا أن يسهر المواطنون على استقرار وحماية واستمرار نظامه. مصر تريد رئيساً هو ممثل السلطة، يمارسها باسم المجتمع، لا أن يكون هو السلطة نفسها، تندمج فيه، يفعل بها ما يشاء. مصر تعبت كثيراً من الحكام الذين يشيخون فوق مقاعدهم، أولئك الذين يسدون الطرق إلى التغيير، ولا يعملون إلا لبقائهم مدى الحياة فوق كل الرؤوس. أكثر ما تريده مصر في فخامة الرئيس الجديد أن يكون قابلاً للمناقشة، قابلاً للأخذ والرد، الأخذ مما يقول، والرد على ما يقول، قابلاً للمحاكمة إذا أخطأ، مصر شبعت من الحكام الذين هم فوق النقد، وفوق المساءلة، وفوق الجميع. الرئيس الذي تريده مصر اليوم هو حاكم المدد المحددة والمحدودة، لا المدد المؤبدة التي بلا نهاية، شبعنا من الرئاسات الأبدية، وسئمنا من التواجد في المسئولية حتى آخر نفس يتردد، وآخر نبض يتجدد. مصر تريد حاكماً تعرف كيف ومتى يمشي من الحكم، قبل أن تعرف متى وكيف يأتي إليه. مصر تريد رئيساً تكون هي القيِّمة عليه، لا أن يكون هو القيِّم عليها، المتصرف في أمرها، كأنها شأن يخصه وحده، ولا يخص عشرات الملايين من المواطنين. مصر تريد حاكماً على شاكلة رجب طيب أردوغان، ومهاتير محمد، ودي سيلفا من أصحاب المشاريع الوطنية الكبرى التي تنقلها من عالم التخلف إلى عالم تستحق أن تكون فيه بجدارة وعن استحقاق. مصر تريد أن يكون الرئيس القادم مؤهلاً و قادراً على تحقيق طموحاتها، وهي لا تريد بكل تأكيد رئيساً يكون على شاكلة أكثر المرشحين المحتملين اليوم، خاصة الذين يأتون من رحم النظام السابق، يتسابقون اليوم من أجل تحقيق طموحاتهم الخاصة. ** كاتب وصحفى مصري المصدر: محيط