د.هلال محمد العسكر في كل واحد منا كائن وهمي ، يُنصّب له مَرَدة من خياله ، ويغزل من خيوط الوهم عقباتٍ لا أساس لها من الصحة ، وكلما حاول أن ينجح في حياته يتعذر بعدم قدرته على تخطي أولئك المردة الذين قد يكونون على هيئة فقر ، أو يأس ، أو بطالة أو إحباط أو أي معضلة من معضلات الحياة ، فيقضي حياته بين الخوف منها وبين التردد في مواجهتها. بين الخوف والتردد يعشش الظلام واليأس اللذان يطحنان كل فرصة للنجاح ، فمخاوفنا هي طواحين من صنع أنفسنا وأفكارنا المليئة بالسلبية. قرأتُ مرة إحصائية بأن الإنسان يسمع كلمة (لا) خلال الثمانية عشر سنة الأولى من حياته أكثر من 148 ألف مرة ، بينما لا يسمع كلمة (نعم) إلا بضع آلاف من المرات. حيث تتضافر جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع على تعزيز المخاوف في نفسه من خلال تحذيره من إتيان أي عمل جديد أو جريء ، فيتبرمج عقله الباطن على الإحجام عن القيام بشيء خارج مسار حياته الروتينية ، وعندما يواجه تحديات الحياة ، فإنه يضخمها ويصنع منها طواحين عملاقة ، إلا أن الفرق هنا أنه لا يواجهها كما فعل كائنه الوهمي ، بل يستسلم لها ويعيش حبيس قضبانها الوهمية. التردد سببه مرض نفسي ، وضعف في الشخصية والمرء ذو الرأيين متقلب متردد وقد يقول: إنني أفكر وأدرس..! ولكن شتان بين عمق التفكير ، والتردد في التفكير. فرق بين إنسان يدرس بعمق ، وبين آخر يعدل في تفكيره إلى رأى ، ثم يتركه إلى غيره ، ثم يرجع إلى رأيه الأول ، ثم يتركه ، ولا يستقر على حال. وربما يكون سببه الخوف من الفشل ، الخطأ ، الضعف ، عدم القدرة ، النتائج السيئة ، المسئولية ، سوء الاختيار ، وغير ذلك مما يجعل الإنسان يقف مترددا على مفترق طرق. وقد يكون سببه عدم الثقة بالنفس ، فالمتردد ربما يكون إنسانًا لم يتعود الاعتماد على نفسه ، ولا الثقة بنفسه ، فهو لا يثق بتفكيره ، ولا بقراره ، ولا يحسن اختياره ، ولا يثق بقدرته ، وليست له خبرة ليثق بخبرته ، وربما ليست له معرفة ليثق بمعرفته . وربما يكون سببه نقص في الشجاعة والإقدام ، فهو لا يستطيع البت في الأمور ، كلما أقدم تخونه شجاعته ، غالبًا ما تكون إرادته ضعيفة ، كلما يحزم أمره يجد الأمور أمامه متساوية ، فلا يدرى أيها يختار ، فهو غير متأكد من النتائج ، وربما من الوسائل أيضًا. وربما يكون سببه الحيرة نتيجة لعدم الفهم ، كأن يكون أمام الإنسان أمران كلاهما خير ، ولكن أيهما هو الأفضل ؟ أو أمران كلاهما شر ، ولكن أيهما أقل شرًا ؟ أو أمامه أمر لا يدرى أهو خير أم شر ؟ فالرؤية غير واضحة. وربما يكون سببه كثرة المشيرين والناصحين ، فالذي له مرشد واحد ، ما أسهل أن يقوده في طريق واحد ، أما الذي يسأل كثيرين ، فمن الممكن أن يقوده كل مرشد إلى طريق يخالف غيره ، وينصحه بنصيحة عكس نصيحة الآخر ، وهكذا يقف مترددًا بين النصائح المتعارضة ، لا يعرف أيها أفضل ! وقد يكون سببه قراءات متناقضة تربك التفكير ، فعندما يحاول الإنسان معرفة كل التفاصيل الدقيقة قبل القيام بعمل جديد ، وعندما يُعلي من قيمة تلك التفاصيل فإنه يمارس الخوف ، ولذلك فإن المتردد لا يثق بقلبه ، والخائف لا يثق بعقله ، ولو كانت مخاوفنا حقيقية ، فلماذا لا يعاني منها غيرنا بنفس الدرجة التي نعاني منها نحن ؟ إن خوف الإنسان هو رغبته في ألا يكون شيئاً ، ليس لأنه غير قادر على التغلب عليه ، ولكن لأنه غير مدرك بأنه قادر على ذلك ، وإدراك الحقائق هو أول خطوة في بناء الشخصية المستقرة. التردد نتيجة الخوف أمنيات لم نثق بها بعد ، نعلم بأنها جميلة ، ولكننا نخشى أن نتعثر في الطريق إليها ، وهذه الخشية ذاتها هي سبب توقفنا ، وننسى أن عثراتنا قد تصنعنا أكثر من نجاحاتنا. ولذلك يولي المتردد زمام نفسه إلى غيره ليسوسها ، فيفقد السيطرة على مصيره ، ولا يعود له من الحياة سوى انتظار عطف الآخرين وحسناتهم. أما الخائف فإنه يلغي الحاجة إلى المستقبل لأنه يخشى دروبه. قد تبدو دروب المستقبل مظلمة ، ولكن الظلام وحده من يمنح النور جمالاً ويدفعنا للبحث عنه ، أو لاختراعه بأيدينا. إن عدم ثقتنا بالمستقبل لن يلغي وجوده ، ولكنه يلغي وجودنا نحن. عندما أرى البعض يسيطر عليه الخوف والتردد أتساءل : هل نقرأ الكتب الصحيحة التي تزرع في نفوسنا الإيجابية وتعزز الشجاعة في داخلنا ؟ هل ما نشاهده ونسمعه يدفعنا إلى الطموح بغد أفضل ؟ إن بعض مدخلات ثقافتنا التي تشكل حيزاً كبيراً من بناء شخصياتنا هي في الواقع مدخلات سلبية ، تقتل في عقلنا الباطن كل إيمان بالنجاح ، وتنشر شبح الخوف بين أفراد المجتمع. طبعا ليس عيباً أن يخاف الإنسان ، ولكن العيب أن تسيطر عليه مخاوفه ، فالشجاعة ليست غياب الخوف ، ولكنها القدرة على التحكم فيه. إن تكرار اللاءات في حياتنا جعلت من السلبية حالة طبيعية ، ومذ أن كنا صغاراً كنا نسمع تحذيرات « لا تفعل هذا ، هذا عيب ، هذا غير لائق ، ماذا سيقول عنك الناس ، لا تفشلنا عند الله وخلقه الخ..!» لتنعكس تلك العقد على ممارساتنا الحياتية ، ويصبح الناس قضاة علينا في محكمة المجتمع المجحفة. فعندما نذهب لشراء ملابس جديدة فإننا نفكر في رأي الناس ، وعندما تضحك في مكان عام ، فإننا نفكّر في صورتنا أمام الناس الجالسين حولنا ، وعندما نفكر في الزواج ، فإننا نكون حذرين جداً في اختيار شريك حياتنا لكي يتوافق مع توقعات الناس ، وفي خضم كل هذه الإرباكات الاجتماعية ينسى الإنسان أن يمارس حريته دون أن يتدخل الكون كله في تفاصيل حياته! الخوف يشبه عيش امرأة مع رجل لا تحبه ، والتردد يشبه عيش رجل مع امرأة لا يثق فيها ، الأولى تموت كمداً ، والثاني يموت قلقاً. ولكي نتخلص من الخوف علينا أن نفهم أنفسنا ، ولكي نتخلص من التردد علينا أن نفهم الحياة ، وذلك بالاستماع إليها وبالتدرب عليها ، وفهم الحياة يأتي بخوض تجاربها وتحمّل آلامها ، وقد يكلفنا ذلك العمل وقتا ، ولكنه سيمنحنا عمرا. لنسير نحو إدارة أفضل دعونا نكسر حاجز الخوف لنرى ما يوجد خلفه ، ثم نواجه مخاوفنا دون تردد لأنها حتماً ستواجهنا ، والأشياء التي تخيفنا هي الأشياء التي يجب أن نبدأ بها أولاً ، ثم لا نيأس من تكرار المحاولة ، فالوقت يُنضِجُ كل شيء.