في ظل الضجة واسعة النطاق التي أثارها نشر موقع ويكيليكس ل400 ألف وثيقة عن عمليات الولاياتالمتحدة وقوات الاحتلال الأخرى في العراق، والعديد من التحليلات والتكهنات التي رافقت وأعقبت الكشف عن هذا الكم الهائل من الوثائق والمستندات؛ فإن سؤالاً واحداً قد يغيب في زحمة الحديث عن مدى دقة المعلومات وسر توقيتها والمستهدف الأساسي من تسريبها، هو ذاك المتعلق بمن ينبغي عليه تلك الفاتورة الباهظة التي تتكبدها الشعوب المقهورة من جراء عدوان غاشم لا يرحم يتدثر ببعض المبررات الفارغة لممارسة طغيانه واستبداده على شعوبنا المسلمة وانتهاك آدميتها وانتزاع حقوقها الإنسانية، لمجرد الرغبة في استنزاف ثرواتها أو تأمين الكيان الصهيوني. لا غرو أن توقيت إفشاء تلك الأسرار وهذا الحشد الهائل من الوثائق المسربة لا يعني سوى قيام دولة كبيرة يكاد يجمع المحللون على أنها الولاياتالمتحدة ذاتها بتحويل دفة النظر والأحداث وقلب الطاولة في وجه بعض حلفائها والتمهيد لسياسات أخرى جديدة في المنطقة، وسعيها لإجراء تحول ما في الرأي العام الدولي، عبر تغيير تكتيكها الإعلامي، ولا يستبعد كذلك إعادة إنتاج فضائح سجن "أبو غريب" و"جوانتنامو" التي بدا نشر فظائعها عفوياً بشكل جديد، يشي كله بأن هذه المعلومات التي يبثها ويكيليكس ليست نتاج "صحوة ضمير"، ولا أنها مرت من تحت سمع وبصر البنتاجون والسي آي إيه دون انتباه منهما إليها، وهذا ليس جديداً على كل حال، بل تلك الوثائق ذاتها لا تغير من الوقائع شيئاً ثم إنها لا تغير من إيماننا بخسة تلك الدول وأحذيتها التي انتعلتها في الطريق إلى بغداد، وإنما لابد من اعتبار أن من سرب تلك الوثائق التي يدرك جيداً أن ما سنردده عن ضرورة إجراء محاكمات لمجرمي الحرب الأمريكيين والإيرانيين والعراقيين المتورطين في غزو العراق وجرائم ما بعد الغزو ووقائع التعذيب وارتكاب المجازر بحق المدنيين والغالبية السنية، تدركه الجهة التي سربت المعلومات وهي لن تكون بعيدة بطبيعة الحال عن دائرة صنع القرار الأمريكي، هو محض أمنيات لا بأس في أن نشاكس بها الاحتلال لفظياً كتلك التي راودتنا عند ملاحقة بعض المسؤولين الصهاينة بأوروبا أو التي أعقبت أحلام ما بعد استشهاد المبحوح، وأن القدرة على إحداث فعالية في هذا السياق أو في غيره منوط بمن يملكون زمام المبادرة والقوة، وهو ما لم يعد يتوافر لنا كدول إسلامية وعربية، وأن مربط الفرس هنا، وهو ببساطة أن الجهة التي سربت ما كان لها أن تفعل لو تسلل إليها شك بأن العالم الإسلامي بمقدوره في ظل أوضاعه الحالية أن يستثمر تلك المعلومات. وأن كثيراً من مقالاتنا وكتاباتنا التي ستردد هي جيدة على كل حال، لجهة كونها ستزيد الغرب انفضاحاً لكنها في الأخير لن تمثل إلا صرخات مكلوم. كما أننا لن نتصور أن يساق المالكي يوماً وأعوانه إلى المحاكمة بسبب جرائم تفوق في حجمها بكثير من نسب إلى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وأعدم بسببها، برغم كون مكتب المالكي نفسه لم ينف بشكل صريح مسؤوليته عن الجرائم الطائفية وعزاها إلى السلطة الممنوحة للاعتقال وإلحاق العقاب بمرتكبي الجرائم. لا المالكي ولا غيره من قادة الميليشيات، إذ ستبقى معادلة التعاون الوثيق بين واشنطن وطهران، وستظل العلاقات رغم جمود سطحها دافئة في عمقها برغم كل مستندات جوليان أسانج مؤسس الموقع الإلكتروني التي ربما تغير في معادلات ظرفية بين دولة كبرى وأخرى، أو بين إحداهما وأخرى إقليمية، لكن الأكيد أنها لن ترفع شأن المنهزمين، ربما تفيد بعض اللاعبين، لكن المتفرجين لا.. ربما كانت هزيمة أمريكا وحلفائها في مجال القيم أكبر من أي هزيمة أخرى تحاول التستر عليها الآن، غير أن وثائق ويكيليكس رغم حجمها الهائل ليست الدليل الأكبر على "وحشية" تلك "الحضارة".