لم أكن أظن أنه الوداع الأخير الذي سوف يجمعني بصديقي الراحل البراء رحمه الله, حين كنّا نستقلّ السيارة مسافرين, ولم أكن أظن أن الرحيل مرُّ لهذه الدرجة, يترك أثرًا في النفس لا يزول. رحمك الله يا صديقي, كم تقاسمنا الغربة سويًّا حين قستْ علينا, وتجرّعنا ويلات السفر, وركبنا ومشينا وجلسنا وضحكنا, كم التحفنا بالغياب وطرقنا الصعاب والآن تسبقني وحيدًا إلى التراب. في الوداع الأخير صدمةُ تستنزف العيون ما لك حيلة في دفعها حتى والصبر يغشاك, ما إن تبادر بالصمت إلا وحديث الدموع يبدأ قسرًا من شدة الذهول, ثم تهطل بعد ذلك الذكريات مشدوهةً في أسئلةٍ متعددةٍ كيف ولماذا وهل , موقظةً كل ما سكن في الذاكرة, حينها ترى شواهد ضحكةٍ وسمر وليالي من قمر, كنتَ فيها مع الراحلين لم تغصّ بفكرة النهاية, وها أنت الآن ترسم كل تلك الذكريات على إيقاع الدموع التي تستجيب مرغمة لكل تسريبات الذاكرة. كيف استدرتَ ولم تلوّح بالغيابْ=أكذا الرحيل يكون يا أغلى الصِحابْ؟ أنا لم أزل أرنو إليك فعدْ إلى=هذي العيونِ لكي تكفّ عن انسكابْ ما زلتُ أرقب طلعة الوجه البشو=ش فأي دربٍ سوف تطرق أي بابْ؟ أتظن أني حين قالوا ميّتٌ=صدّقتهم؛ ما كان مثليَ في ارتيابْ ما زلتَ في نبضي تخطّ دم اللقاء= وتمتطي ذكرى على رغم الصِعابْ في ناظري في مسمعي في صدر مش=تاقٍ وفي تنهيدةٍ تحكي العذابْ في كلّ صوتٍ راح يسأل في الدجى=في كل رجْعٍ صامتٍ يطوي الجوابْ ما متَّ كيف وأنت تسري في دمي=ومعي تعيش معي تعاقرني الشبابْ ومعي تسافر أينما ذهبتْ خطايَ معي= معي لمّا يساورني الإيابْ قاسمتني مرّ التغرّب والنوى =فمتى تُرى جسدي يقاسمك الترابْ؟ 1